- تأليف: أنا ميكاي
- ترجمة: محمد صديق أمون
- مراجعة: عبد الله الشهري
- تحرير: لطيفة الخريف
كان إعلانُ أمازون الشهر الماضي عن عزمها إنفاق 700 مليون دولار (569 مليون جنيه استرليني) على مدى ست سنوات لإعادة تدريب ثُلث عمالتها الأميركية أمرًا لافتًا لأسباب عديدة؛ منها المبلغ المقترح، فحتى بالنسبة لثاني أغلى الشركات عالميا، يُعد إنفاقُ ثلاثة أرباع بليون دولار على مدى نصف عقدٍ لإعادة تدريب 100,000 عامِل مشروعًا ضخمًا.
رؤيةُ الشركة كانت لافتةً كذلك، فقد عزت أمازون صراحةً تحرُكها لانتشار الأتمتة، التعلم الآلي وأنواع التكنولوجيا الأخرى فيما يسمى بالثورة الصناعية الرابعة. جال إحساس ما أن رائدة التجارة الإلكترونية، المعروفة باستعمالها للأتمتة، لم تفعل أكثر من الاستجابة المبكرة للحقيقة المحتومة التي ستواجه جميع أرباب الأعمال قريبًا: أن مهارات العاملين الحاليين لن تكون لها أي قيمة في السوق لتكفل الآلات بأدوارهم القديمة، وبروز أدوار جديدة، حيث يذكر أن لدى الشركة حاليا 20,000 وظيفة شاغرة.
لكن ربما كان أبرز جوانب هذا الإعلان بالنسبة للجامعات هو إسقاطهم منه. فبحسب مجلة وول ستريت، حتى التدريب المتطور على علوم الحاسب سيشرفُ عليه طاقم من موظفي أمازون، بعضهم أساتذة جامعيون سابقون، وذلك في “جامعة التعلم الآلي” الجديدة التابعة للشركة.
هذا يعكس -جزئيا- المستوى العالي من الخبرات الداخلية التي تملكها شركة هائلة، وغنية، ومبدعة مثل أمازون. لكن هل يصح أن يُرى هذا، من جانب آخر، على أنه غض من جهود الجامعات المبذولة حتى الآن في التعامل مع ترتيبات التعلم المستمر؟
وفقًا لديفيد أتشويرناه، مدير مؤسسة التعلم المستمر التابعة لليونسكو، ظهر مفهوم التعلم المستمر في سبعينيات القرن الماضي. لكن مع تطور التكنولوجيا، وبخاصة نشوء الذكاء الاصطناعي، شهد المفهوم حضورًا متعاظمًا في جداول الأعمال في السنين الأخيرة. ذكر تقريرُ المنتدى الاقتصادي العالمي عن مستقبل الوظائف 2018 أن الآلات يمكن أن تحل مكان 75 مليون وظيفة حول العالم بحلول 2022، بينما يمكن أن تنشأ 133 مليون وظيفة جديدة من التقسيم الجديد للعمل بين البشر والحواسيب. ولهذا كان إدراجُ “التعليم النوعي الشامل والعادل والتعلم المستمر مدى الحياة للجميع” في قائمة الأمم المتحدة لأهداف التنمية المستدامة، التي تبناها جميع الدول الأعضاء في 2015. يقول أتشويرناه: “طبيعة ونهج هذه التغيرات تعني أن إعادة تدريب الموظفين أو تحسين مهاراتهم فحسب لم يعد كافيًا” مضيفًا: “نحن في حاجة إلى تعاهد قدرة الموظفين على التكيف، والإبداع، والأهم من هذا كله، على التعلم طوال حياتهم”. في المملكة المتحدة على سبيل المثال، شكل التعلم المستمر دعامة أساسية في تقرير أوجر (Augar review) للتعليم بعد الثامنة عشرة، وهو أيضًا على وشك أن يكون موضوعًا لبحث لجنة التعليم في مجلس العموم. على كل حال، تبقى مؤسسات التعليم العالي التي تأخذ خطوات جادةً لاحتضان التعلم المستمر قليلةً، والكيفية التي يجب أن تكون عليها هذه الخطوات غير واضحة. فكيف لك أن تتيح إعادة التدريب لأولئك البالغين العاملين المضطرين لموازنة الكثير من الالتزامات معًا كالعمل والأولاد والاهتمام بالأقارب المسنين بأفضل الطرق؟ وهل تُعد الجامعات أكثر المؤسسات ملائمة للتكفل بهذه المهمة؟
“الآن، لدينا نظام تعليمي مبني على كون عددٍ من الأشخاص يلتحقون بالجامعة بين الـ18 و الـ21، وربما يحصلون على درجة ماجستير، ثم يجدون عملًا ويستمرون فيه”. تلك كانت كلمات ديفيد لاتشمان، نائب رئيس كلية بيركبك، جامعة لندن الذي أضاف: “لكن الحياة لم تعد هكذا، ونحتاج نظامًا تعليميًا يُدرك هذا”. في مجال التعلم المستمر، يُنظر إلى بيركبك بوصفها نموذجًا مرتقبًا لباقي جامعات المملكة المتحدة لأنها تلبي بالضبط احتياجات الطلبة البالغين. لكن العجز الحالي الذي أعلنت عنه المؤسسةُ يسلط الضوء على حقيقة أن من غير الوارد وجود خطوات منسقة داخل القطاع حتى تتضح طريقة تأمين نفقات التعلم المستمر.
رحب لاتشمان بتوصية تقرير أوجر القائلة باستحقاق كل فردٍ قرضًا طلابيا مدى الحياة بقيمة 30,000 جنيه استرليني، وهو ما يساوي تكاليف أربع سنوات جامعية بدوام كامل إذا ما أخذ بسقف الرسوم المقترح المساوي لـ7500 جنيه استرليني سنويا، والذي يمكن إنفاقه في أي مساقات مهنية أو أكاديمية، وفي أي وقت، سواء كان ذلك بدوام جزئي أو كامل. لكنه يعتقد أن مقترحات المراجعة لا تقدم ما يكفي لإدارة التعلم المستمر كما ينبغي، ففي حين أن المقترحاتِ تلغي قاعدة الـ(ELQ) الحالية التي تمنع الأفراد من الحصول على قروض طلابية لمؤهل آخر بنفس مستوى مؤهلاتهم، يظهر أن معظم مستحقات التمويل المُقترحة ستنفق في دراسة المرحلة الجامعية الأولى، لذا يعتقد لاتشمان أن المستحقات يجب أن تكون لست سنوات على الأقل. لكنه يرى أيضًا أن الطلاب الأكبر سنًا أشد نفورًا من الديون من أولئك الأصغر، الأمر الذي قد يمنعهم من استخدام مستحقاتهم فيما يستقبلون من حياتهم. يتأكد هذا بالانخفاض الكبير في الدراسة ذات الدوام الجزئي الذي تلا مضاعفة الرسوم الجامعية ثلاث مرات في إنجلترا في 2012، وهو يفسر العجز الذي أصاب بيركبك في 2017-18، كذلك المشكلات المالية الكبيرة التي عصفت بالجامعة المفتوحة، أبرز معاهد المملكة المتحدة للطلبة البالغين، مجبرة إياها على الشروع بسلسلة موجعة من إجراءات تخفيض التكاليف، التي انتهت باستقالة نائب رئيس الجامعة السابق بيتر هورِكس السنة الماضية.
تقر ماري كيليت، نائبة رئيس الجامعة المفتوحة، بأن سياسة التمويل “يجب أن تتغير”، إن كان يراد للتعليم المستمر أن ينطلق، فـ “القدرة على تحمل التكاليف أمر أساسي لتطوير المهارات وللتعلم المستمر”. وهي تشير إلى الإصلاحات الويلزية الأخيرة التي تسمح للطلاب الدارسين بدوام جزئي أن يطالبوا بدعم مماثل للذي يتلقاه أصحاب الدوام الكامل، والذي يشتمل على إعانات لأشدهم عوزًا. تظهرُ البيانات الجديدة من شركة قروض الطلاب للدعم الطلابي أن عدد المتقدمين من القاطنين بويلز الدارسين بدوام جزئي قد ازداد بنسبة 35% في العام التالي لهذه التغييرات.
في وقت سابق من 2019، أطلق حزب العمال لجنة التعلم المستمر وذاك لتطوير سياسته حول التعليم الحر والشامل من المهد إلى اللحد. لكن على الحزب أن يحث الخطى حسب كيليت، فـ” حتى في غضون السنوات الخمس القادمة، العالم سيتغير بسرعة. ومع الوقت ستصبح بعض الأمور التي درسها الطالب، الذي يوشك الآن أن يحصل على شهادته، في البداية بلا جدوى”.
في الولايات المتحدة، قد تكون حركة الجامعة المجانية الآخذة في الانتشار، والتي تبناها عديد من المتبارين الديمقراطيين في مضمار الرئاسة بأشكال مختلفة، سبيلًا لجعل الدراسة الإضافية مستطاعة في عصر وصل فيه الدين الطلابي إلى حافة الكارثة. لكن الفكرة لا تزال محل نزاع عريض، وربما يتبين عدم إمكانها.
لكن هل يهب أرباب الأعمال؟ حسب بول لوبلانك، رئيس جامعة نيو هامبشاير الجنوبية، هناك بالفعل: “جهود نشطة للغاية في التعليم العالي لعقد شراكة مع كبار أرباب الأعمال”. تعرض شركات عديدة دعم الرسوم الدراسية لموظفيها الراغبين بتحصيل شهادة ما، وقد نهضت شركات مختلفة لملائمة موظفيها مع الجامعات التي توفر سُبل التعلم على الشبكة. ومع أن النفقات المسجلة التي يتكلفها أرباب الأعمال في أميركا على تعليم الموظفين تساوي 20 بليون دولار سنويا، لكن هذا الدعم المالي لطالما كان -من الناحية التاريخية- “مخصصات موارد بشرية غير مستفاد منها”. لكن “مع الحرب الواقعة على المواهب، يسعى الآن أرباب الأعمال لتوزيع هذه المخصصات التعليمية بصورة أنجع لإعادة التدريب ولتحسين المهارات”.
يلفت لوبلانك النظر إلى أن أمازون قد عقدت شراكة مع التعليم العالي “بطرق متينة للغاية” وذلك لتدريب قوتها العاملة، وإن كان غالبًا مع كليات مجتمعية. إلا أن مبادرة الشركة الأخيرة قد صدمته لما تمثله من “توسع معتبر لاستراتيجية شاملة حيال القوة العاملة، والتي ستبنى فوق التعاون الحالي مع التعليم العالي”. على كل حال، ليست أمازون وحدها من خلص إلى أن “حاجتها الهائلة لموظفين أكثر كفاءة” لا يسعها أن “تنتظر التعليم العالي ليؤمن ما يكفي وينتج الخريجين اللازمين. إن التعليم العالي، وبخاصة قطاع السنتين، متجاوب مع احتياجات القوة العاملة، لكن لا يمكن لأحد أن يرتاب في ألمعية وسرعة حركة صناعتنا، لذا يبدر منا التأخر”، حسب قول لوبلانك.
في المقابل فأنه يشك بأن الثورة الصناعية الرابعة ستشهد في النهاية انخفاضًا بالطلب على العمالة البشرية. حيث يقول: “أجل، موجة التكنولوجيا ستخلق وظائف جديدة، لكنها لن تكون متوافقة مع تلك التي تقوض، وأيضًا ستكون وظائف جديدة، لكن يمكن أن تتكفل بها الخوارزميات كما البشر.” ومن هذا المنظار “ربما يُرى تحرك أمازون هذا على أنه النسخة الأشد قوةً من برامج إعادة التدريب للوظائف الحكومية، التي تكون أحيانًا غير ممولة جيدًا، وغير فعالة كما يجب، وموجهة إلى العمال الذين سيقع عليهم الاستبدال قريبًا. إن كانت الحال هكذا، فهنيئًا لهم”.
النرويج أيضًا تواجه مشكلات في تمويل التعلم المستمر. حيث شكلت الحكومة من قريبٍ لجنة خبراء لبحث كيفية تقليل العقبات التي تعرقلُ مؤسسات التعليم العالي في جهودها لتطوير وإيصال البرامج التي تتيح التعلم المستمر. حيث أن الدراسة مجانية في النرويج، والسماح بالالتحاق المتكرر بالتعليم العالي على مدى الحياة سيكون مكلفًا جدًا بالنسبة للدولة. صرح غونار بوڤم، رئيس الجامعة النرويجية للعلوم والتكنولوجيا، لموقع Science|Business في حزيران أنه قد يكون على الحكومة أن تبحث وضع رسوم دراسية على المقررات في مرحلة لاحقة من الحياة: “يجب أن يُدفع لها بطريقة ما، سواء كان ذلك من قبل الحكومة، أو الأفراد، أو الاثنين معًا”.
لكن حتى مع وجود التمويل اللازم، كيف يجب أن يبدو هذا التعلم المستمر عن طريق الجامعات؟ يقول إنغيان هنغيساند، رئيس الكلية النرويجية لإدارة الأعمالBI، أنه من المهم عدم تضييع الطاقات في النضال حول أي كفاءات قد يحتاجها الناس في المستقبل، لأن العالم يتغير بسرعة. و”المثال الذي أستعمله هو ما حدث في مُنقلب القرن العشرين من توقع الناس أن تواجه لندن مشكلة مع روث الخيول في العشرين سنة القادمة جراء العدد الضخم من الأحصنة والعربات التي تلج المدينة، لكنهم لم يتوقعوا اختراع السيارات. واليوم التكنولوجيا تتغير بصورة أسرع”.
“أهم ما يجب على الحكومة فعله الآن هو تدعيم الدينامية بين الأفراد، والأعمال التجارية، ومتعهدي التعليم العالي، لتكون البرامج مرنة ومتفاعلة مع التغيرات”. حسب قول هنغيساند الذي يضيفُ : “يجب أن نكون قادرين على إغلاق بعض البرامج، وافتتاح أخرى جديدة بسهولة ويسر”.
ويرى أن كلياتِ إدارة الأعمال يمكن أن تُعد حيز التعليم العالي الذي قد استثمر بالفعل في التعلم المستمر، حيث إن أغلب من يقدم على ماجستير إدارة الأعمال هم من الذين سبق لهم العمل في وظيفة. لكنه يضيف أنه لا يزال على مؤسسته أن تكيف نفسها لمعالجة التعلم المستمر بصورة أكمل: “لدينا الآن عروض نموذجية، وتعلم مُدمج. وعلينا أن نسهل على الناس العودة [إلى الجامعة]”.
في سنغافورة، اجتمعت جامعة سنغافورة الوطنية (NUS) مع وزارة التعليم، ووزارة القوى البشرية في جهد مشترك لخلق ثقافة التعلم المستمر، وذلك بدعمٍ حكومي ضخم. في العام الماضي، أعلنت (NUS) أنها ستقدم لخريجيها بشكل مدعوم ومتواصل إمكانية الالتحاق بمجموعة كبيرة جديدة من مقررات التعلم والتدرب المتواصل على مدى أكثر من عشرين عامًا بعد تاريخ القبول. ستتوفر الدفعة الأولى التي تضم 500 مقرر في آب/ أغسطس، على أن يتلوها مزيد. وسيتمكن الطلبة من إلحاقها بدبلومات التخرج، أو حتى بشهادات كاملة.
” يستحسن أن تنحو الجامعات الأخرى نفس هذا المنحى لتُبقي أسهم خريجيها عالية في القوة العاملة مع مرور الوقت”. هذه كلمات نانسي غليسون، الرئيسة السابقة لمركز كلية (Yale-NUS) للتعليم والتعلم، والتي أصبحت مؤخرًا المديرة التدشينية لمركز هيلاري بالون للامتياز في التعليم والتعلم، والأستاذة المساعدة الزائرة في جامعة نيويورك أبو ظبي حيث تعلم التطبيق في العلوم الاجتماعية. ” بصورة عامة، لم يُفعل ما يكفي لترويج التعلم المستمر، وكثير من هيئات التعليم العالي لا ترى ذلك من اختصاصها”. سبب ذلك جزئيًا، حسب رأيها، أن التعلم المستمر يجب أن يُطور لزامًا بالاشتراك مع النشاط الصناعي، “والذي لا يعده الأكاديميون أمرًا مناسبًا دائمًا، فكثير منهم لا يرون أنفسهم في تعليم المهارات المهنية. لكن هذه العقلية يجب أن تتغير”.
تُلقى محاضرات شهادة المرحلة الجامعية الأولى في حرم كلية بيركبك خلال المساء، ووفقًا للاتمشان، فإن الأكاديميين يعجبهم هذا لأنه يسمح لهم باستغلال كامل النهار في بحوثهم. لكنه يعترف بأنه إن أرادت أي جامعة اعتيادية تعزيز عروضها النهارية ببرامج مسائية، فإن عليها أن توظف طاقم مدرسين إضافيين.
مع هذا، يرى كثير من المتابعين أن البرامج الشبكية -لا تلك المرتكزة على الحرم الجامعي- قد تكون مفتاح التعلم المستمر. لطالما كان التعلم عن بعد لقمة عيش الجامعة المفتوحة منذ إنشائها قبل خمسين سنة. وتوافق كيليت على أن المرونة التي تقدمها الجامعة نفيسة جدًا.
” على [التعلم المستمر] أن ينسجم مع عملك، والتزاماتك، وقدراتك” حسب قولها، “وهذا ما نفعله في الجامعة المفتوحة: نتيح للناس فرصة التعلم في أي وقت، وفي أي مكان. بأريحية تناسبهم، وعلى دفعات صغيرة مركزة. ونعمل عن قرب مع أرباب الأعمال لنعي احتياجاتهم، ومن ثم نفصّل مناهجنا بما يقارب ذلك حسب الاستطاعة”.
في 2013، أطلقت الجامعة المفتوحة FutureLearn، المنصة الأولى في المملكة المتحدة للمقررات الشبكية المفتوحة الهائلة (Moocs). يرى مارك ليستر أحد مؤسسي FutureLearn، والمدير العام للشراكات التعليمية والجامعية، أن التعلم المستمر سيتاح بأكمله تقريبًا شبكيا وذلك لأن “نموذج الحرم الجامعي لا يستوعب مدى وحجم البشر الذين يحتاجون لتحسين مهاراتهم أو اكتساب أخرى جديدة، حيث يقدرون بالملايين، والجامعات لا تتسع لهذا”.
لكن “مجموعة متكاملة من الخيارات” يجب أن تتوفر على الشبكة، وذلك لأنه في حين أن بعض المتعلمين يريد فقط زيادة مستوى معرفته في أمور محددة، فإن القوانين توجب الحاجة لشهادات علمية جديدة تمامًا بالنسبة للآخرين. ومن أجل ذلك تبنى FutureLearn، شأنه شأن باقي منصات (Moocs)، “الشهادات-المصغرة”، حيث إنها “في هذه الحالة، تُمنح بعد 100 أو 150 ساعة دراسية، ويمكن أن يصار إلى عدها شهادة كاملة. إن هذا التوجهُ التجزيئي سيتيح للناس، وفقًا لليستر، الانغماس في التعليم النظامي والخروج منه باستمرار.
ومع ذلك، ليس لاتشمان وحيدًا في اعتقاده أنه “وفقًا لكثيرين، التعلم الشبكي الخالصُ، ليس الحل الأنسب” لأن خبرة الصف الدراسي تبقى ذات شأن. ويقول: “بضمها إلى التعليم الشبكي، ينفتح طريق المستقبل”. في سبيل هذه الغاية، توفر بيركبك مقررات لدرجة الماجستير تُدرس غالبًا عبر الشبكة، لكن الطلاب المنضمين “يحضرون أسبوعًا من الدراسة المكثفة مع الأكاديميين، ثم يرجعون إلى الشبكة، ويعودون لاحقًا”.
يقر جوزيف عون، رئيس جامعة نورث إيسترن في بوسطن، أن الدراسة الشبكية الخالصة ليست مناسبةً لكل أحد. حل نوث إيسترن لهذا هو افتتاح فروع للحرم الجامعي في أرجاء الولايات المتحدة والعالم، من وادي السيليكون إلى كندا وقريبًا في المملكة المتحدة. يتيح هذا للمتعلمين الشبكيين أن يتفاعلوا بصورة شخصية، وييسر “التعلم بالتجربة”، التي يجري تحسينها عادةً بالعمل التدريبي. أحد برامج نيو إيسترن الجديدة، على سبيل المثال، تسمح لخريجي الفنون والإنسانيات أن ينجزوا فترة تدريب في صناعة التكنولوجيا، والتي تفضي إلى ماجستير في علوم الحاسب.
أن التعلم المستمر مفتاح لرسالة عون حول إيجاد موظفٍ بشري “مقاوم للروبوتات”. لكنه يستشهد باستقصاء أجرته نورث إيسترن ومؤسسة غالوب في 2019 يُظهر أن معظم المشاركين لا يعدون التعليم العالي محطتهم الأولى لتجديد مهاراتهم. ما يقارب 95 بالمئة من البالغين المستطلعة آراهم في أميركا، وكندا، والمملكة المتحدة، رفعوا من شأن التعلم على مدى الحياة المهنية. لكن البرامج داخل العمل، والمقدمة من المشغلين كانت الخيار الأكثر رواجًا.
إضافة إلى هذا، بينما صرح 52 بالمئة من الكنديين، و 45 بالمئة من البريطانيين المشاركين بأن التعليم العالي يبذل ما يكفي لتأمين احتياجات التعلم المستمر، فإن 25 بالمئة فقط من الأمريكيين وافق على ذلك. على أية حال، ومع وجود أمازون، قد تكون الجامعات العروض الوحيدة في البلدة للعديد من الأميركيين. فبحسب عون، قد انخفض عددُ المشغلين الأميركيين الذين يقدمون فرص التعلم المستمر لأن “معدل خدمة الموظف في أميركا أقل من خمس سنوات. و في وادي السيليكون ثلاث سنوات، فمن الذي بقي لينجزه؟”
لهذا السبب “على الجامعات أن تعتبر أن التعلم المستمر جزء من مهمتها الرئيسية. لكن مجرد القول لا يكفي، بل علينا أن نعتاد تقديم برامج وتعليمٍ مبني على احتياجات المتعلمين”. ويضيف: “علينا أن نتوجه نحو المتعلم، أي علينا أن نوفر برامج مخصصة وحسب الطلب، وهذا يتطلب من الجامعات أن تتواضع، والتواضع ليس من شيمها”. فكثير من الأكاديميين، مثلًا، يتباهى بإيجاده لمقرراته استنادًا إلى اهتماماته البحثية. لكن عون يؤكد “إننا لا نقول لهم: عليكم أن تفعلوا هذا”، ولا “يُفضل أن تفعلوا هذا”، إنما هي دعوة للمساهمة. نقول لهم: “هناك حاجة هنا، من يود تمحيصها؟، من يريد اختبارها؟”.
صممت نورث إيسترن مع عدد من المشغلين شهادات يمكن جمعها، شأنها شأن تلك المعدة من قبل(NUS)، لتصبح في النهاية درجة علمية كاملة. يعد عون اعتراف باقي موفري التعليم، وأرباب الأعمال، والهيئات الاحترافية جزءًا مهما من تحقيق التعلم المستمر.
طبعًا، فيما يخص منصة ليستر FutureLearn، إمكانية الاعتراف العالمي بالشهادات الجامعية المصغرة هو الذي يعطيها الأفضلية في نظر الطلاب على التدريب المقدم داخل المؤسسات، ولو كان على يد شركة مهيبة مثل أمازون. وتعد مُشاركة الجامعات في التعلم المستمر أمرًا أساسيا لضمان الجودة. لكن هذا لا يعني أنه ليس لأرباب الأعمال دور في إعداد البرامج، حيث يعتقد ليستر أن على نظام الشهادات الجديد أن يعالج النقد القديم الممتد لقدرة الخريجين التقليديين على العمل، وذلك عبر موازنة الصرامة الأكاديمية مع مساهمة المشغلين بتبيين احتياجاتهم.
من جانبها، تعتقد كيليت أن ثمة حاجة لتعاون عابر للقطاعات أكبر من الموجود الآن حيال التعلم المستمر، ولا سيما قطاع التعليم الإضافي: “إذا نزعنا نحو التكلف والاستئثار حيال هذا الأمر فلن نفي باحتياجات المتعلمين”. وتقول: “إن كان تحقيق هذه المهمة يغدو أكثر يسرًا بالشراكة وبالعمل مع باقي المؤسسات، فليكن إذن”.
هناك مسألة لطالما تعلقت بالبرامج المرتبطة بالجاهزية للعمل وهي أن رغبات الطلبة لا توافق دومًا احتياجات المشغلين. ففيما يتعلق بمساقات الذكاء الاصطناعي AI على سبيل المثال، يشير لوبلانك من نيو هامبشاير الجنوبية إلى أن “هذه المجالات عسيرة، ولذا فحتى مع وجود البرامج، ثمة تحدٍ في إقناع الناس بأن هذه هي المجالات التي يجب الانضمام إليها”. ثم هناك مسألة أخرى وهي “تزويد الناس بالمهارات الأساسية التي تخولهم النجاح في هذه البرامج”، فبتقدير لوبلانك، 50 بالمئة من الطلاب الأميركيين يأتون إلى الكلية غير مستعدين لمستوى الشغل الموجود، لذا “إيصالهم إلى خط النهاية أمر صعب” كما يقول.
في نفس الوقت، يرى ويليام لوك، مدير مركز ملبورن لدراسة التعليم العالي، أن من المهم عدم الغفلة عن أن المتعلمين ليسوا جميعًا مدفوعين بالهم الوظيفي، وأن هذا يشمل التعلم المستمر أيضًا. فالبعض قد يسعى لتحصيل مؤهلات جديدة من باب الهواية فقط، أو بهدف أن يكون جزءًا من مجتمعٍ، أو حتى من أجل تحسين لياقته الذهنية.
تؤكد كيليت أيضًا أن التعلم المستمر لا يدور فقط حول “المهارات والعمل، والترقية وزيادة الأجور. بل هناك أيضًا المنافع الاجتماعية التي يجلبها التعلم نفسُه، وكيف يجهزك للتعامل مع تحديات الحياة. إن فكرت في عدد السنين التي سيكون فيها الناس على قيد الحياة، سيظهر لزوم تزويد الناس بمهارات تعلم كيفية تدبير المراحل اللاحقة من حياتهم، ليكونوا أكثر مرونة”.
لكن بكل وضوح، التغيرات في أماكن العمل هي التي ستوجه في المقام الأول الدعوات إلى التعلم المستمر وطُرق تصميمه. هذا ومع أن شركات مثل أمازون قد تكون في عجلة شديدة لا تسمح بالانتظار، لكن التغييرات التي تبنتها حتى الآن مؤسسات مثل نيو هامبشاير الجنوبية ونورث إيسترن تدل على أن محركات التعليم العالي الهائلة قد تكون باشرت الدوران”.
من جهته، يُلمح لوبلانك إلى أنه في الوقت الذي تُعد فيه مبادة أمازون مثالًا حسنًا على “مقدمي الخدمات الجُدد والأساليب الجديدة لتطوير المهارات” الذين يُتوقع بروزهم مع انطلاقة التعلم المستمر، فإنه لا يزال يتوقع أن يكون “لمؤسسات التعليم العالي التقليدية” مساهمة مُعتبرة؛ وعون يوافقه الرأي. “إنها نقلة، لكنها نقلة مرحب بها”، حسب قوله. “إذا تأملت الحاجات الملحة، فلعل هذا هو موضعها. الجميع يحتاج إلى إعادة توجيه، وإلى تحسين مهاراته، وإلى اكتساب مهارات جديدة، الجميع”.
اقرأ ايضاً: الدفاع الفلسفي عن المحاضرة التقليدية