- تأليف: أوين هولِت
- ترجمة: محمد صديق أمون
- تحرير: غادة عبد الرحمن
ضد الثقافة العاميّة[1]*
بالنسبة لأدورنو، ليست الثقافة العامية فناً رديئًا فحسب – إنها تجعلنا عبيدًا للتكرار وتسلبنا حريتنا الجمالية.
كانت الموسيقى الكلاسيكيّة والثقافةُ الأوروبيّة الرّاقيةُ في القلب من فلسفة تيودور أدورنو ورؤيته للحياة. فقد شبَّ المولود في 1903 في فرانكفورت الألمانيّة على الموسيقى، استماعاً وممارسةً. فأمّه ماريّا كالفيلي أدورنو كانت مغنية، وقد كان هو عازفَ بيانو موهوبًا في فتوّته. ولقد التحق بمعهد هوخ الموسيقيّ لإكمال دراسته مع الملحن النمساوي ألبان بيرغ. اختار أدورنو لنفسه أن يحترف الفلسفة فتقلّد منصبًا في جامعة فرانكفورت في 1931، لكن ظلت الموسيقى والثقافة في بؤرة اهتماماته.
اكمل قراءة مقال: أكثر من الحب وأكثر من الخمرة
أصر أدورنو على المعايير العالية، فلم تكن الثقافة بالنّسبة له مجرد مسألة تقدم تقنيّ -في تأليف موسيقى أجمل، وأكثر تعقيداً مثلاً- لكن أيضًا -ولو بشكل غير مباشر- مسألة أخلاق.
فالموسيقى، كجميع الثقافة، إمّا أن تدعم وإما أن تعرقل التقدم الاجتماعي نحو حرية أعظم. وقد كان ذاك التقدم في خطر، فحتى في فيينا زمن ما قبل الحرب، رأى أدورنو بوادر الانهيار في الثقافة الأوروبية. وسيكتب لاحقًا عن عمل إيغور سترافينسكي (قدسية الرّبيع) ، الذي قٌدم للمرة الأولى في 1913، أنّه يمثّل “تشغيبَ ثقافةٍ على جوهرها بما هي ثقافة” والذي “احُتفي به بصفته إغواء بالضبط لما فيه من معارضة للحضارة”. وأن ما تضمنه الباليه من “مغازلة للبربريّة” لم يكن متعلقًا بالموسيقى فحسب، بل عكس حقائق اجتماعيّة، وأظهر أدلةً على نوع من التوجه الثقافي نحو الانحسار والسّيطرة، وعلى استحواذ الكل الاجتماعيّ على الفرد.
تأكّدت تلك التوجهاتُ نحو الانحسار والسّيطرة مع ظهور النّازيّة. فوالد أدورنو، أوسكار فيسنغارد، كان يهوديًّا. ولذلك؛ ألغى النّازيون رخصة أدورنو للتدريس في 1933. مما دفعه لقضاء أربع سنوات في أكسفورد حيث كان يحضّر للدكتوراة تحت إشراف الفيلسوف غلبرت رايل.
هاجر أدورنو رفقة مركز البحوث الاجتماعيّة الفرانكفورتي إلى الولايات المتحدة، حيث استقر أخيراً في لوس أنجلوس في 1941. وهناك، وجد الفيلسوف، الذي أغلظ القول في سترافينسكي من قبل، نفسَه وجهًا لوجه أمام ميكي ماوس. وقد كتب في (الأخلاق الصغري 1951) بكل استياءٍ: “كل زيارةٍ للسينما، برغم كل احتراسي، تجعلني أغبى وأسوء”
كحال كثير من المهاجرين، كان أدورنو في البداية مُربَكًا بالثقافة الجماهيريّة الأميركيّة، والتي لم تكن قد اجتاحت أوروبا بعد كما سيحدث بُعيد الحرب. و سرعان ما غدا ذاك الإرباك ارتيابًا مؤسسًا، فقد زعم أن الثقافة العاميّة الرأسماليّة، (الجاز، والسينما، وموسيقى البوب) ، تتلاعب بنا لنعيش حياتنا فاقدين الحرية الحقيقيّة، وتعمل فقط على حَرف رغباتنا. وأن الثقافة العاميّة ليست التعبير العفويّ عن النّاس، بل هي صناعة يحدوها طلب الرّبح، وهي تسلبنا حريّتنا وتدفعنا للتوافق مع متطلباتها الرّبحية.
لقد كان الارتياب في الثقافة الأميركيّة مُتَبادلاً، فأدورنو وزميله الفلسفيّ ماكس هوركهايمر كانا ماركسيين يصورة معلنة، فوضعا فورًا تحت رقابة الـFBI، واعتُرضت الرّسائل بينهما. وكذلك استُدعي شريك أدورنو في التأليف هانس إيزلر في 1947 للمثول أمام (House Un-American Activities Committee)[2]، ورُحّل في 1948.
قد ارتاب الـFBI في أدورنو بصفته دخيلاً ماركسيًّا على فضاء رأسماليّ، وفي هذه الأيام يرتاب النّاس فيه بصفته دخيلاً من بيئة موسرة على فضاءٍ تقدميّ. ومن ثمَّ يكون الرّد السهل القريب على إدانة أدورنو للثقافة العاميّة في نبذه وعدّه مجرد مترفّع، حيث يكون كُرهه للثقافة الجماهيريّة في الحقيقة كُرهًا للجماهير التي ينظر إليها من عليائه. ويظهر بمظهر المستشرف حينما يرى أنّ النّاس من السهل أن يُخدعوا ويضللوا، وأنّ الثقافَة العاميّة سطحيّة ومتلاعبة. في هذه النسخة من أدورنو، تبدو حُججه بلا بصيرةٍ، وملؤها النخبويّة، بينما في الحقيقة تقوم الثقافة العاميّة بإسعاد النّاس وبالتعبير عنهم.
لكن هذا الرّدَ القريب غيرُ مصيب. فلم يكتفِ أدورنو بمجرد إدانة الثقافة العاميّة، أو الحنين إلى عهد الثقافة الرّاقية. بل كانت لديه مشكلات عظيمةٌ مع كلتيهما، وهذه المشكلات نابعةٌ من تقدير أدورنو ومناداته بالمتعة، حاديه في ذلك همٌّ أخلاقي بالغ حول صلاح أحوالنا. وإن كان هذا يبدو غريبًا، لكن هجوم أدورنو على الثقافة العاميّة مدفوعٌ برغبة في تحديد وتجنُّب المخاطر التي تهدد ازدهارنا. فالثقافةُ العاميّة ليست فقط فنًّا هابطًا -مع أنّه يعتقد أنّها كذلك- ، لكنّها أيضًا فنٌ مؤذٍ، لأنّها تقف في طريق الحريّة الحقيقيّة.
لنعي هذا الموقف الأخلاقيّ، يمكن لنا أن نذكر مثالاً مألوفاً: “المتع المذنبة”. نحن اليوم، بشكل عام، نعمل وقتاً أطول، مع قليل من الأمان، وبأجر زهيدٍ. والعالم من حولنا يتخبّط في مشكلات اجتماعيّة وسياسيّة لا نملك طريقة واضحة وفوريّة للتعامل معها أو تخفيفها. أمّا وقتنا الحرُّ المحدود فيبدو لنا أنّه من الأفضل إنفاقه على الاسترخاء من الحاجات التي نثقل أنفسنا بها، هاربين من ضغوطات الحيّاة اليوميّة. و في حين أن المتع المذنبة نّاقصة، لكنّها تمنحنا متعةً غالبًا ما نفتقدها في خضم حياتنا المشغولة هذه، والمفترض أنّها توفّر لنا سرورًا أسرعَ من الفن الرّاقي، لما تتطلبه من وقتٍ، وانتباه، ومصاريف أقل.
ليس أدورنو خصيمًا للمتعة، لكنّه حتمًا سيرتاب في “المتع المذنبة” هذه. فأي عالم ذاك الذي يقرن المتعة والذّنب معاً؟ وأي متعةٌ تلك التي يرافقها وعيٌ، مهما كان ضئيلاً، بأن الأمور يجب أن تكون أحسن؟ إنّه عالم، كما يدّعي أدورنو، يعطينا فقط صورةً باهتةً عن المتعة متنكرةً بزيّ شيء حقيقيّ: التكرار متنكرًا بزيّ الفرار، وفترة راحة قصيرة بزيّ الرفاهيّة. تعرض الثقافة العاميّة نفسها على أنّها تحرير لمشاعرنا ورغباتنا المكبوتة، وبالتالي مزيد حرية. لكنّها في الحقيقة تسلبنا حريّتنا مرّتين، جماليًّا حين تفشل في منحنا الحريّة الجماليّة في الاستمتاع بالفن. وأخلاقيًّا حينما تعرقل سبيل الحريّة الاجتماعيّة الحقة.
ماذا يعني فقد الحريّة الجماليّة؟ بالنّسبة لأدورنو هذا متعلّقٌ بالحرية في معاناة، وتأويل، وفهم الأعمال الفنيّة. وهذه الحريّة تتطلب عملاً فنيًّا لمنحنا الزمان والمكان لنعيشه فيه، ولمعاناته بصفته كُلاً مُوحّدًا. لكنَّه يزعمُ أنَّ الثقافة العاميّة قد فقدت القدرةَ على خلق هذا الكلّ المجتمع الموحّد، و الأعمال التي تُنتَج الآن هي عبارةٌ عن مجموعة مهلهلة من اللحظات المجرَّبة في تعاقب خاطفٍ مفكك.
ليس من النّادر أن نسمع أفلامًا تُمدح لما فيها من “مشاهد مُختارة”، و”مؤثرات خاصّة”. وإذا فتّشنا تحت ألفة هذا الخطاب، سنجد الغرابة. فنحي نثني على فيلم مدته ساعتان من أجل اللحظات الممتعة (والمكلّفة) التي يتضمنها: سلسلة المطاردات، الانفجارات، وحركات القتال. قد صرنا معتادين على تفتيت ما هو معروضٌ أمامنا بصفته شيئاً واحداً إلى مجموعة غير مترابطةٍ من الأشياء الأصغر. هذا فيما يتعلق بطريقة معانتنا للأفلام، لكن يمكن ذكر أمثلة أخرى حيال طريقة حديثنا عن الأفلام. فمثلاً، على موقع نادي AV نجد قائمة بأفضل “المشاهد” في 2017، وهي قائمة تحوي سلاسل مفككة مأخوذة من أفلام معروضة بشكل منعزل. والأكثر من هذا، تصنّف مجلة Variety أفضل عشر لقطات في 2017، أو صور ثابتة معزولة عن الأفلام، وحتى عن الحركة، التي تضفي عليها المعنى.
نقابل نفس هذه الظاهرة في الموسيقى، فالأغاني الضاربة تتضمن”خطاطيف”، أجزاء نغميّة أخّاذة توجد في الكورال أو في الجسر[3]، والتي أعدت الأغنية من أجل إيصالها مراراً وتكراراً. بإمكاننا أن نستحضر كورال أغنية ذا رولنغ ستونز I Can’t Get no) Satisfaction 1965)، ولهذا الكورال مسيرة طويلة، فقد أعيد استخدامه في الإعلانات، والموسيقى التصويريّة، والتشويقات. إذ يُستمتع فيه بشكل منعزل، وبحقه الخاص. وهناك بلا شك أُناس لم يسبق لهم سماع كامل الأبيات. إذن يمكن تفتيت الأغنية من دون فقدان المعنى، ويمكن أن تسحب لحظاتها، ويعاد استخدامها، والأغنية كلها مصممة لتسليم الشدّ والنّشر الذي يأتي مع توقع، وسماع ذات الكورال مرّة أخرى. في رأي أدورنو، هذا حَرفٌ وسدٌّ لطريق الحريّة الجماليّة الحقّة، النّشاط الممتع والحرّ الذي يتمّ فيه توحيدُ وإعمال جميع أجزاء العمل الفنيّ معاً ضمن تجميع متكامل. التجربة الجماليّة بلا قيد أو شروط، غير متوقعة، وسائلة، ولها بنية معقدة تدعّم وتطور على مدى الزمان المتطاول. في المقابل، تعوّدنا الثقافة العاميّة على التركيز على مساحة الدقائق في الزمان والمحتوى، مُضعفةً قدرتَنا ورغبتنا في معاناة الأعمال الفنيّة بصفتها أشياء موّحدة معقدة.
وصيّرتنا كذلك معتادين على نوع من التجربة الجماليّة شبيهٍ جدًا بالشُّغل الذي أردات أن تحررنا منه، وذاك في مقابلة مستمرة بين الأعمال الفنيّة وبين معايير واستعارات موضوعة سلفًا.
تأمل كيف أنّه من النّادر أثناء مشاهدتنا لفيلم عاميّ، على سبيل المثال، أن نكون غير واعين بوظيفة المشهد الذي أمامنا. فأحد المشاهد يؤسس بوضوح لعلاقاتٍ ستؤطر تالي الأحداث، وذاك المشهد مشهد أكشن، وآخر يُظهر دوافع الشرير. فنحن في العادة مشغولون بفهم غير واع لوظيفة كل مشهد، وبالتأكيد مدّته المتوقعة. حينما يَعرضُ المشهد الافتتاحي شخصًا يستيقظ في غرفةً مُكَركبة، نكون متأكّدين بمعقوليّة من أنّ هذا هو الشخصيّة الرئيسيّة، وأنّه حين يرنُّ جرس المنبه، سينهض قلقًا من التأخّر عن شيءٍ ما. وعندما يزور جيمس بوند العميلَ (Q)، نعلم أن الأدوات التي تُعرض ستُستخدم لاحقًا، فنبقيها في بالنا، ونعلم أنّ المحادثة لن تطولَ، وأنّها لن تتضمن أيّ حوارات عميقة مؤثّرة. ونادرًا ما تخيب توقعاتنا. نحن نُستخدم في ترتيب، ومقابلة، وملء لحظات الفيلم خلال مرورها. و بدلاً من أن نُعطَى وقتاً لتأمل وتأويل الأعمال الفنيّة، بتنا متورطين في نفس الفرز والتصنيف اللذين يميّزان عالمَ الشُّغل الذي حسبنا أننا كنا منه نفرُّ.
بالطبع أدورنو محقٌ في أنّ هذا حال الكثير من الأفلام، يسير السردُ فيها بشكل عام في طُرق مألوفةٍ، وتُعرض الشخصيّات فيها بشكل عام وفق نماذج معتادة. لكن هذا ليس بالنبأ الجديد. فنحن لا ننتظر من أحد الأفلام الذائعة مثل The Dark Knight Rises (2012) أن يكونَ بمثل جودة الفلم الفنيّ Andrei Rublev (1966)، فنحن ببساطة لا نتوقع منه ذلك، ونكتفي منه بمنحنا ساعتين أو ثلاث من المُتعة والإثارة، لا أن يكون موقفاً للتأمّل والتدبر. نستمتع به لما هو عليه فقط، أي بكونه مُتعة مذنبة.
لكنّ الشيء الغريب في المُتع المذنبة، أنّها مذنبة. فنحن على دراية تامّةٍ بأنّ ما نفعله يمكن أن يكون أفضل، لكنّا مع ذلك نستمتع به على كل حال. يرى أدورنو أن هذا هو مَكمن الإشكال في الثقافة العاميّة، فبالنّسبة له، نحن لا نُخدَع، بل نعلم تمامًا ما الذي نتلقاه ومدى رداءته، لكننا نشتهيه مع ذلك:
إن انتصار الإعلانات في الصناعة الثقافيّة يظهر في التقليد الإكراهي من قبل مستهلكي المنتوجات الثقافيّة التي يعلمون في الوقت عينه أنّها زائفة.[..]
العبارةُ القائلة إنَّ العالمَ يريد أن يُخدعَ صارت أصدقَ مما أريد بها يومًا. فالنّاس لا يقعون في شَرَك الخداع، كما يقول المثل، بل لو يضمن لهم مُتعًا حتى لو كانت أسرع الأشياء زوالاً، لاشتهوا الإيهام وإن كان غير خافٍ عليهم.
يزعم أدورنو أنّك على دراية معقولةٍ بما تأتيه وتختاره، لكن مع هذا تبقى صناعة الثقافة أداة لـ(خداع الجماهير) ، وللضرر. لم ذاك؟ قد قلنا من قبل أنّ أدورنو مدفوع بهم أخلاقيّ حيال صلاح أحوالنا، لكن ما أساس هذا الهم؟ كما أشرتُ من قبل، يفعّل هذا الهمُّ الفكرةَ القائلة أن الثقافة العاميّة تضرُّنا. من أجل فهم هذا الزعم، علينا أن ننظر كرّةً أخرى إلى تلك السمات “الجماليّة” التي استكشفناها من قبل، أي استخدام الثقافة العاميّة، للتكرار، وللاستعارات، وللألفة. وسيظهر في النهايّة أنّه بالنّسبة لأدورنو، الحريّة الجماليّة والحريّة الاجتماعية مرتبطتين بشدة.
في رأي أدورنو، جُزءٌ كبير من الضرر الذي تسببه الثقافة العاميّة يصيب قدرتنا على التصرّف بحريّة وعفويّة. ويدّعي أن الثقافة العاميّةَ، بالإضافة إلى كونها مصدرًا للمتعة، هي نوع من التّمرين أيضًا. حيث تُدخلنا في أنماط معيّنة من التفكير وفهم الذّات، مدعّمة إياها، تؤذي قدرتنا على العيش بصفتنا أحرارًا حقًا. وتحقق هذا بشكل جزئي بقابليّتها للتّوقع، كتب أدورنو في جدل التنوير (1944) الذي ألفه بالاشتراك مع ماكس هوركهايمر:
في الفيلم يمكن توقع مآل الأحداث منذ البداية، من سيُثاب، ومن سيُعاقب، ومن سيُنسى. وفي الموسيقى الخفيفة، يمكن دومًا للآذن المهيّأة أن تخمّن الاستمرار بعد البارات الأولى في أغنية ضاربةٍ، وتسرُّ عندما يحدث ذلك فعلاً.
لم يبقَ مساحة للمستهلكين ليُظهروا فيها (الخيال والعفويّة). بل انجرفوا في تعاقب اللحظات المتوقعة. حيث كلٌّ منها سهل الهضم لدرجة أنّه يمكن “أن يستهلك باستيعاب، حتّى في حالة شرود الذّهن”. وإن كنّا، كما يعتقد أدورنو، في العالم الأوسع تحت ضغط متزايد لنتطابق، وننتجَ، ونصبَّ طاقاتنا في العمل، فيكون فقدان المكان الذي يخوّلنا التفكير بحرية، والتخيّل، وتأمل إمكانيّات جديدةٍ، خسارة عميقة مؤذية. حتى في حريّتنا من العمل، نحن لسنا أحرارًا لنتعاطى حقًا النّوع الحر والعفويّ من المُتَع التي قد تساعدنا على ملاحظة ورفض فقدان المُتعة الضار الذي نلاقيه في حياتنا المشغولة هذه.
فقدان الحريّة الجماليّة إذن يعرقل سبيل تحقيق الحريّة الاجتماعيّة. إذا كانت الثقافة العاميّة توظّفنا حتى في أوقات الفراغ، وإذا عدمنا المكان الذي يتيح لنا التفكير والتجريب بشكل حرٍ وغير متوقّعٍ، فستغيب عن ناظرنا إمكانية وجود عالمٍ غير محكوم تماماً بالعمل، وشيئًا فشيئًا سيكون لنا مساحة أقل لتصوّر أمر مثل هذا، وكذلك معايشة أقل لكل شيء عدا ما يتطلبه العمل.
ويمضي أدورنو في دعواه، في توقّع صادم بالكثير من سمات حياتنا الثقافيّة اليوم، أن هذا التماثل الجامد يقدّم نفسه في زيّ التمرد والتجديد:
يمكن لهذا الشكل من التوحيد في الأسلوب، أن يتجاوز كلَّ الإملاءات الرّسميّة وكل التعليمات. ففي أيامنا يجري الحديث عن عدم وجوب الالتزام بالقواعد الموسيقيّة والابتعاد عن التفاصيل اللحنية أو الإيقاعيّة المتناغمة وعدم التوقف عند ما اصطلح عليه بأنّه لغة القوم [..] والانشقاق الواقعي يصبح علامة الصناعة عند من يقدم للمؤسسة فكرة (جدل التنوير: الترجمة العربيّة)
هنا أيضًا ثمّةَ ضربٌ من الضرر، فكل الشكاوى والعدائيّة الحقيقيّة التي تتجمع بداخلنا تجد لها متنفسًا مع هذا الفنّ المتمرد المزعوم. آخذين الموسيقى مثالاً، من ذا دوور (شركة التسجيل: إلكترا، الآن ضمن مجموعة وارنر ميوزيك)، إلى ذا ريج أغنست ماشين (شركة التسجيل: إيبك، مملوكة لسوني ميوزك) وما وراء ذلك، سُخِّر الاهتياج والاحتجاج الشعبيّان في موسيقى سهلة الهضم، بدعمٍ من تكتلات تجارية ضخمة، واستُخدمت لتوفير متنفسٍ آمنٍ لعدم الرضا. في هذا التحرير، تلبّي الثقافة العاميّة رغباتنا فعلاً، لكنّها تضمّهم من جديد إلى عمليّة طلب الرّبح، مبددةً كل الجهود التي يمكن أن تنجز تغييرًا حقيقيًّا. والمتعة المؤقتة التي نجدها في تلبية رغباتنا، وتفريغ إحباطنا، في الثقافة العاميّة تقف حجر عثرة في طريق تغيير أقوى في طريقة حياتنا، يمكن له أن يُخفّفَ من إحباطنا، وأن يوفر لنا المُتعة، بشكل أعمق وأبقى. فرضانا إذن هو سبب خداعنا، وحرماننا من متع أكثر حريّة وبقاء في قادم الأيام.
في رأي أدورنو، ليست الثقافة العاميّة سيئةً لأنها تمنحنا مُتعًا سريعةً، ومتوفّرة، بطريقة لا يستطيعها الفنّ الراقي الحديث المتطلّب، بل لأنها تمنّينا بهذه المتع وتخفق في منحنا إياها بطريقة حقيقيّة. ومن ثم يتبيّن أنّ هجوم أدورنو على الثقافة العاميّة ليس هجومًا على المُتعة، بل هجومٌ باسم المُتعة. في رسالة إلى زميله الفيلسوف فالتر بينامين، أشار أدورنو إلى الثقافتين الرّاقية والهابطة بكونهما ” نصفين مُمزقين من حريّة متكاملةٍ لكنّها عند ضمّهما معًا، لا تجتمع”. تعطينا الثقافة العاميّة المتعة، وهي طلبنا وحقُّنا، لكن يرافقها دومًا أذيةٌ لقدرتنا على التفكير بحريّة، وعلى سحب أنفسنا فعلاً من جوّ العمل والرّبح. الثقافة الرّاقية تخلقُ في أحسن أحوالها أعمالاً فنيّة تمنحنا حريّة جماليّة حقيقيّة، وفرارًا من جو العمل. لكن دون هذه الأعمال حواجز مانعةٌ، تعزل الظروف المناسبة لتذوّق هذا الفن عن الجميع ما عدا طائفة صغيرة. فحضور سيمفونيّة لا يتطلب المال فحسب، بل الوقت أيضًا والحريةَ من الحاجات و المنغّصات الحاليّة، ويحتاج انعزالاً عن كل قلقٍ حيال المال، والغذاء، والأمان، وكل أولئك في تناقص مستمر في عالمٍ يغدو التوظيف فيه أكثر تقلقلاً وأقل أجراً كل حين.
(الثقافة الرّاقية) و(الثقافة العاميّة) ، كلاهما معطوب ومؤذٍ، ولا ينازع أدورنو لإزالة واحدة منهما، بل لإزالة الاثنتين معًا. فنحن جميعًا نستحق أن نتحصّل على المتعة بلا ذنب وبلا ضررٍ، وبلا قلقٍ. لكن مجتمعنا أبعد الأشياء عن المساواة، ومتطلبات الحريّة الجماليّة الحقيقيّة والتذوق الحرّ الحقيقيّ للفن مكلّفة جداً لدرجة أنّها بعيدةٌ عن متناولنا جميعًا تقريب. إن كانت الثقافة العاميّة رجعيّةً وضارّة، لكن متيّسرة، فلأنّها مجرد انعكاس للأضرار التي سببتها الثقافة الرّاقية، والتفاوتات التي جعلتها ممكنةً:
الفن السهل .. إنّه الوعي الاجتماعي السيء للفن الجاد. فما كان على الأول أن يخسره بالحقيقة قد أعطى الآخر مظهر الشرعية. والقسمة هذه هي الحقيقة بحد ذاتها: فهي تعبر أقله عن سلبيّة الثقافة المكونة من جمع الدائرتين معاً. (جدل التنوير: الترجمة العربيّة)
يظهر أنّ أدورنو ليس بذاك المترفّع كما يبدو لأول وهلةٍ، ولعله أكثر راديكاليّةً وأقل محافظةً مما تشي به سمعتُه. في البداية، بدا كأننا في خطأ فادح، وأنّ مجاراتنا ودعمنا للثقافة العاميّة مردُّه إلى قصورنا الأخلاقيّ. لكن تبيّن أن غير الأخلاقي هو العالم الذي يمنعنا من ملاحظة إمكانيّاتنا، ويغلق الطريق أمام أي فرصة لمتعة غير تلك التي تكتفي بمجرد تكرار متطلبات العمل. ليست شكاوى أدورنو موجهة إلينا، بل إلى العراقيل التي نُصبت في دربنا. فهو يقدّر المتعة، وينادي أن تكون حياتنا مليئة بها. لكن ما يلاقيه أدورنو هو أن بنية العالم الحديث تؤكد لنا أن مُتعنا ستكون دومًا ناقصة ومحدودة. فمن جانب، يمكنني أن أتلقف مُتَع الثقافة العاميّة بسهولة، لكن في المقابل سأجعل نفسي عرضةً لتلاعبها المشتت والمفكك والمخادع بحواسي ومشاعري. ومن جانب آخر، قد أكون محظوظاً لدرجة يمكنني معها أن أكرّس كمًّا كبيرًا من المال والوقت لتذوق الفن الرّاقي، لكن قدرتي على فعل هذا مبنيّة على التوزيع غير المتساوي للثروات، فلا تأتي حريّتي المؤقتة إلّا على حساب الآخرين.
بالنّسبة لأدورنو، هناك ببساطة أعمال فنيّة أفضل من أخرى، والثقافة العاميّة بشكل عام من ساقط المتاع. لكنَّ عالم أدورنو المثالي ليس عامرًا بصورة حصريّة بقاعات الحفلات الموسيقيّة والمكبّات المليئة بالتلفزيونات المحطمة. هو لا يقدّم أي تصور لعالم مثالي، ولكن يكتفي بوصف وعد متواصل بمتعة وسرور يعتقد هو أننا بالكاد نحظى بهما، ونتكلّف فوق ذلك ثمناً باهظًا للغاية.
[1] يقابل الأستاذُ الموسيقيّ مصطفى سعيد بين الموسيقى العربيّة الفصحى (موسيقى التّراث وعصر النّهضة) والموسيقى العاميّة، ومن هنا كانت ترجمتنا للعنوان. ترجمات أخرى ممكنة مثل: “الثقافة الجماهيريّة”، “الثقافة الشعبيّة”، و “الثقافة البوب”، وإن كانت جميعها لا تخلو من لَبس. (م)
[2] لجنة تابعة لمجلس النّواب الأميركيّ، أنشئت في نهاية الثلاثينيّات، ونشطت خلال الحرب الباردة. تركّز عملها على التّفتيش عن النّشاطات الشيوعيّة في الحكومة والمجتمع. (م)
[3] الكورال في الأغنية الحديثة هو الجزء الذي يُكرر عقب كل عدة أبيات، أما الجسر فيأتي بعد الكورال عادةً، ويهيئ الجو لانتقال لحنيّ أو إيقاعيّ. (م)