- تأليف : عبد الله الوهيبي
- تحرير : خلود الحبيب
مبتدأ
في أكثر ما يمرّ بي من قصص، وحكايات، وتواريخ، وروايات، وسرديات شخصية أو عمومية، لا أستطيع تحاشي سؤال المعنى. ما الدافع الذي يحفز هؤلاء الناس على القيام من السرير صباحاً؟ كيف يواصلون المسير برغم الألم؟ كيف يتجاوزون الأزمات؟ من أين يحصلون على الأمل والتفاؤل؟ لماذا لا ينتحر العدمي في هذا العالم الموحش؟ كيف يكبت اللاديني أهواءه ونزواته؟ ولماذا؟ أحب فتح آفاق التأويل للسلوك الإنساني على مصراعيه كل ما أمكن، أبحث عن ذلك “الحنين” الخافت إلى السماء، كيف يصمت في قلوب متحجرة، ونفوس متصحرة لم يهطل عليها ندىً من إيمانٍ يوماً ما. سأحمل فيما يأتي هذه الأسئلة وأضعها على محك اختبار نظري في حقل “الفن”، فنحن نشهد حقبة اتسع فيها حجم استهلاك الفنون العاصرة بفضل التقنيات الاتصالية بصورة غير مسبوقة، فليس من الغريب أن تجد الشاب في هذه الأيام ينغمس طوال وقته وسط كومة مسلسلات طويلة، بمتوسط 40 ساعة للمسلسل الواحد، وفي وقت آخر يواصل قراءة قائمة طويلة من الروايات العربية والمترجمة، ولا يفرط بمتابعة قوائم التوصيات بأبرز الأفلام للعام المنصرم، مع قائمة مختارة لأفلام الأنمي، والأنميشن، وربما يسير ساعات طويلة كل يوم وفي أذنه يستمع لقائمته المفضلة من أنواع الموسيقى الغربية والشرقية. هذا سلوك شائع في هذه الأزمنة القاسية . وهنا يكون من المشروع التساؤل عن سر هذا الاجتياح لاستهلاك الفنون في عالم اليوم، وعلاقة الفن المعاصر بالدين، وكيف يمكن للفن أن يمنح المعنى للوجود؟
– الفن والدين في التاريخ
يعدّ الأديب اليوناني “المنشقّ” نيكوس كازنتزاكي ت1957 ممن خاضوا الوجود بكل الطاقة البشرية والشعورية الممكنة، فشل في الوصول للحقيقة عبر الدين الحق، وأخذ يتخبط في الروحانيات المتنوعة، باحثاً عن أفق فوق إنساني، أكثر مما تسمح به الحياة الصغيرة، كتب في سيرته الذاتية:
“أكثر من الخمرة والحب، أكثر خداعاً من الأفكار، هي قدرة الفن على إغراء الإنسان، وجعله ينسى”.
لم أستطع التخلص من نفاذ هذه اللمحة التفسيرية، ووجدت أنها تفسر وتساعد في فهم بعض ما يجري، فالخمرة إغماءة مؤقتة للاختفاء عن ملاحقات وطأة الوجود، والحب كذلك. بل الحب يطرح كثيراً على الصعيد النفسي والعاطفي وفي الفنون عموماً باعتباره الخزان الاستراتيجي الذي يمكن للإنسان الحديث التعويل عليه في إنتاج المعنى، والمبرر الذي يدفع الانسان للاستمرار بالعيش إن لم يتمكن من الاستمتاع بالحياة على الأقل، إلا أنه مع ذلك له تكلفته الباهظة، والتي تجعل التخلي عنه خياراً جذاباً لأعداد متكاثرة من الأجيال الجديدة. فتبقى الفنون، الموسيقى، وكافة الفنون السمعية، والسينما، والفنون البصرية بكافة أشكالها، والفنون الكتابية، الرواية والقصيدة والشعر.. أكثر عمقاً، وأقدر على منح الإنسان الحديث النسيان الطويل، والذي يسمح له بالانغماس في تفاصيل الحياة مع التخفف من وطأة السؤال الوجودي. لماذا نحن هنا؟ وما الواجب فعله؟ وإلى أين المصير؟.
وقبل أن أواصل التأمل في أبحاث المفكرين والمحللين، لا بد من القول أن ما سبق لا يعني اختصاص الزمن الحديث بازدهار الفنون، فالفن كفعل إنساني عريق الجذور في التاريخ البشري، وقد ازدهرت الفنون في الحضارة اليونانية وانتشرت الايقونات الكنسية في الديانة النصرانية، ودعمت الكنيسة فنون الرسم في حقب تاريخية معينة، كما ازدهرت الموسيقى الدينية، حتى قال اللاهوتي البروتستانتي ارنست تروليتش:”إن أسمى ما أنتجته البروتستانتية في مجال التصور كان في فن الموسيقى التي أعطاها باخ ت1750 أقوى تعبير فني لها”. وكانت الفلسفة اللاهوتية تنظر إلى كون هذه التجليات الفنية (الأيقونات، الموسيقى والترانيم..الخ) تمثل أنماطاً للاتصال بين المطلق (الله) والمحدود (المخلوق)، وأن الاتصال بالمطلق يكون عبر تجسيد إشارات في صور مادية ينفذ من خلالها الوعي إلى شهود المطلق في اللحظة الجمالية. وإذا تجاوزنا جذور هذه الإشكالية الفلسفية في الديانة النصرانية، ونظرنا في أحد انتقالات هذا التصور عن طبيعة الاتصال بالمطلق، في الفرق الاسلامية، سنجد السماع الصوفي يستند لذات الخلفية الفلسفية المسيحية في تصور الاتصال بالله، وقد وصف علي عزت بيچوڤيتش الصوفية بأنها «نَصْرَنة» للإسلام، فبعض المتصوفة المتأخرين جعل السماع والرقص وإنشاد قصائد الغزل أحد الوسائل للوصول إلى الله، واستثارة التزكية في القلب، ووافقهم بعض المتفلسفة كابن سينا، بل وعند غلاة المتصوفة تجويز النظر للحسان، ومخالطة المردان، وجعل التفكر في حسنهم المادي طريقاً للوصول إلى تذوق الجمال الإلهي، أو أنهم يمثلون عند بعضهم تجلي الجمال الإلهي، أو أبعد من ذلك من الحلول والاتحاد تعالى الله ﷻ عن هذا الكفر علواً كبيراً . وفي الرسالة يروي أبو القاسم القشيري بسنده عن الجنيد أنه سئل: ما بال الإنسان يكون هادئاً، فإذا سمع السماع اضطرب؟ فقال:”إن الله تعالى لما خاطب الذرَّ في الميثاق الأول بقوله:”ألست بربك قالوا بلى” استفرغت عذوبة سماع الكلام الأرواح، فلما سمعوا السماع حرّكهم ذكر ذلك”. وهنا تلاحظ التداخل بين التجربة الجمالية كفعل حسي وانتقالها إلى مستوى روحاني خالص، عبر هذا التأويل الميتافيزيقي الغامض. ولم يكن الصوفية وحدهم من خاض في تفسير تأثير الممارسات الفنية والجماليات، فابن تيمية لما دخل في جدل ضد المتصوفة نافياً عن الشريعة هذه البدع أشار إلى المضمون الروحاني في هذه الفنون، وقال:”تأثير الأصوات في النفوس من أعظم التأثير، يغنيها ويغذّيها، حتى قيل: إنه لذلك سُمّي غناء، لأنه يغني النفس”. وواصل ذلك ابن القيم -مستفيداً من شيخه ومن الغزالي- ليقول:
“النفوس التي فيها رقة ولطافة ورياضة يكون الصوت والصورة أسرع تأثيراً فيها من النار في يابس الحطب، حتى إنها لتتقوّت بذلك أحياناً”.
فيكون السماع أو الموسيقى والجمال الجسدي للروح كالغذاء للبدن.
– سحر الفن الروحي
وعلى الصعيد التاريخي نجد أن مزاجاً جديداً ونزعة حديثة دخلت على حقل الفن المعاصر كعرض من أعراض الأزمة المستمرة التي رافقت الإنسان المتحول للحداثة، ويطرح عالم الاجتماع البريطاني أوستن هارينغتون تفسيراً سوسيولوجياً هاماً لدور الفن في العصر الحديث:
“إن الفن في الثقافة الحديثة حلّ عقلياً محلّ بعض وظائف النشوء التي حققتها الأسطورة والدين في المجتمعات ما قبل الحديثة، ويمكن القول -بقدر ما- إن الفن الحديث حفظ محتويات المعتقد الأسطوري والمعتقد الديني في الشكل الوحيد الذي يمكن فيه الدفاع عن هذه المحتويات دفاعاً عقلياً في المجتمع الحديث”
وهو يعتقد أن الفن الحديث “حرّر المعتقدات الأسطورية والدينية عبر تحويلها إلى حالات تخص التجربة الجمالية، ونزع مزاعمها في الصحة المعرفية والصحة الأخلاقية”، ويشير إلى أن التأويلات والتفسيرات الأيديولوجية للأسطورة والفن التي تضعهما في مصاف الدين إما باعتبار أن الفن هو الوعاء الحافظ للدين والمعبّر الأسمى عنه، أو باعتبار تصعيد الأعمال الفنية بحيث تعامل مثل الأشياء الدينية، فأصبح الفن هدف لطائفة مقدسة لها أداؤها الطقسي، وفنانوها ورهبانها المشاهير، وتجسداتها في أشخاص وأعياد ظهور لها (حفلات الأوسكار مثلاً)، فكل هذا التناول الميتافيزيقي للفن والذي سماه ثيودور أدورنو “ديانة الفن” قدم لجماهير الطبقة الوسطى الأوروبية في القرن التاسع عشر
“وسيلة للتعامل مع ظواهر انقطاع الجذور، وفقدان الأمل، وأزمات الإيمان التي جلبتها العقلانية العلمية، والفردية الاقتصادية، بعد يقظة العلمانية والتصنيع”
فبعد أن “جُرّد العالم من السحر” بحسب تعبير ماكس فيبر الشهير، كان لابد أن يعاد الاعتبار للفن والموسيقى لإنقاذ “الحداثة” من العقل المجدب، ولإعادة السحر للعالم المحروم، وللمساعدة في إنتاج المعنى في عالم جديد فارغ وموحش. وممن أشار إلى ذلك المفكر النمساوي ارنست فيشر ت1972 في كتابه “ضرورة الفن”. ويؤكد أستاذ تاريخ الأديان وعلم الأديان المقارن جان بريمر على خصوصية التجربة الغربية في هذا التبادلية أو عملية الإحلال التي جعلت الفن كالبديل عن الدين، يقول:”وقد حلّ الفن عادةً محل الدين في صفوف النخبة الأوروبية المثقفة. وهذا الإحلال نماذجي مناسب لسياق تطور العالم الغربي فيما بعد عصر التنوير ولا يمكن الوقوف على تجلياته في أي بقعة أخرى خارج أوروبا”.
– الفن كديانة
هذه المقاربة للفن ولرموز الفن وأدواته كنسخة بديلة عن الدين أو كتعويض من نوع ما أغرت الفيلسوف الفرنسي إدغار موران على تناول ظاهرة “نجوم السينما”، وفي مقطع لافت يقول عن ظاهرة “توثين” نجوم ونجمات السينما:”إن النجمات أصبحن أكثر من مجرد مواضيع للإعجاب. إنهن أيضاً مشروع عبادة، ومن حولهن تتشكّل براعم دين جديد. هذا الدين ينشر مؤمنيه في أرجاء العالم كله. وما من واحد ملحد أو كافر من بين الذين يرتادون الصالات المظلمة… أما المهرجانات [السينمائية] فإنها أعياد ربانية ينزل فيها النجم للمساهمة بحفل انتصاره. مجلات، صور، نواد، احتفالات، مهرجانات، كلها مؤسسات أساسية لعبادة النجوم”.
ثم يسوق موران في كتابه “نجوم السينما” نماذج متفرقة من رسائل كتبها معجبين لنجومهم المفضلين ولاحظ ما فيها من عبارات ذات طابع ديني أو تأليهي. لا أود الإفاضة في هذا، فهذه مجرد إشارة لنوع من التحليلات الملفتة في هذا الصدد.
– داخل “الفن” خارج العالم
وإذا أردنا أن نتتبع الأسس النظرية للنزعة الجمالية الحديثة سنرجع بها إلى شوبنهاور ت1860 – بحسب المؤرخ الفني ارنولد هاوزر-، والذي يعتقد في فلسفته التشاؤمية أن الحياة مجرد صراع بائس كله ألم وشقاء ومعاناة، وأن الاستثناء الوحيد من عبثية هذه الحياة يقبع في الفن، فإنه يقدّم ارتياحاً وجيزاً من الآلام. وهذا المعنى عبّر عنه بصورة مباشرة الروائي الشهير غوستاف فلوبير ت1880 حين قال:”الحياة فظيعة إلى حد أن المرء لا يستطيع أن يتحملها إلا بتجنبها، ولا يمكن أن يتجنبها إلا بالعيش في عالم الفن”. ويتحدث الكاتب الإسباني الفذّ إرنستو ساباتو ت2011 عن أنه وفي هذه الفترة من التاريخ والتي يعيش فيها العالم في أزمة مريرة، وأمام هذا الانشطار العميق الذي يعاني منه الإنسان المعاصر “يظهر الفن باعتباره أداة لإنقاذ الوحدة المفقودة”. وتأكيداً للمعنى الخلاصي في الفن الحديث يعتقد ساباتو أن الرواية العميقة لا يمكنها ألا تكون ميتافيزيقية
“إذ أنه تحت المشكلات العائلية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي فيها يتصارع الرجال توجد دائماً المشكلات الأخيرة للوجود: الضيق، والرغبة في السلطة، والحيرة والخوف أمام الموت والرغبة في المطلق وفي الخلود، والتمرد أمام المستحيل في الوجود”.
وهو منسجم في ذلك مع نظريته في تفسير ظهور الرواية الحديثة، والتي تصادف ظهورها -كما يشير- مع الأزمة العميقة التي اجتاحت أوروبا مع انتهاء العصر الوسيط، وفي القرن الثالث عشر ومع تفكك الإمبراطورية والبابوية ومعاناتهما من الانهيار حينها أصبح الإنسان مستعداً لاستقبال الرواية، “وهكذا سيولد ذلك الجنس المثير للدهشة، والذي سيفحص الطبيعة الإنسانية في عالم سيصبح فيه الإله غائباً أو غير موجود أو مشكوك فيه. من ثربانتيس إلى كافكا هذا سيكون الموضوع الكبير للرواية“. ومما سبق ربما يتضح لنا جانب من العلاقة المعقدة بين الدين والفن في الثقافة المعاصرة.
– الفن كتجربة روحية
ويمكننا الآن نمضي لتحليل آخر لكلايف بِلْ، وهو يضع يده بدقة على هذه العلاقة، ويؤكد أولاً أن للفن صلة كبيرة بالحياة الوجدانية، وأنه وسيلة إلى حالة من النشوة العالية، وأن الفن يجيء -كما يعبّر- من الأعماق الروحية للطبيعة الإنسانية، كما أن الفن ضروري للحياة الروحية وهو في الوقت نفسه نتاج لها، ويقول:
“الفن والدين طريقان بهما يهرب البشر من الحدث العَرَضي إلى الوجد. وبين الوجد الفني والوجد الديني ترابط أسري. إن كلاً من الفن والدين هو من مظاهر الحسّ الديني للإنسان، إذا كنا نعني بالحس الديني الحسّ بالواقع النهائي”.
ويزيد من تعميق هذا المعنى الروائي والمفكر الإسباني م. أونامونو ت1936 حين يتحدث عن “الجوع إلى الخلود” ذلك الشعور العميق الثاوي في أعماق الكينونة البشرية الذي يدفع الناس للنهل من ينبوع الإيمان الديني، ثم يواصل هذه الفكرة وينعطف على فلسفة الفن، ليكتب:
“نحن نبحث في الفن عن محاكاة ناقصة للأبدية. وإذا كانت الروح تهدأ في الجميل، وتستريح وتنتعش، فذلك لأن القلق لا يشفى غليلها، ولأن الجمال تجلّ للأزلي، تجلّ للإلهي في الأشياء”.
وقد عبّر أدباء وفلاسفة وملاحدة مراراً عن الانفعال الروحاني العميق، الذي يشعرون به إزاء الفنون المتنوعة، فيقول الكاتب العدمي اميل سيوران:”موسيقى باخ هي الدليل الوحيد على أن وجود هذا الكون لم يكن خطأ”، ويعبّر الأديب المعروف سومرست موم ت1965 عن المعنى نفسه، وهو يستحضر تماماً الإشكالية المطروحة عن العلاقة بين الفن والدين:
“حدث في بعض المناسبات أنني كنت أتأمل بعض اللوحات أو التماثيل أو استمع إلى موسيقى معينة، فيثور في نفسي انفعال عميق لا أستطيع أن أصفه إلا بالكلمات نفسها التي يستعملها الصوفيون لوصف اتحادهم مع الله، ولهذا السبب قلت دوماً أن ذلك الشعور بالاتحاد مع حقيقة كبرى ليس وقفاً على المتدينين فقط، ويمكن بلوغه بطرق أخرى غير الصوم والصلاة، إنه بالطبع متعة وبهجة في حد ذاته”
– الفن كإجابة غير نهائية
وحين يعتقد كازنتزاكي -كما أشرتُ أولاً- وغيره بقدرة الفن على الانتصار بالنسيان على سؤال المعنى في الوجود، يذهب آخرين إلى تصورات أكثر جذرية وانفصالية، فمثلاً الفيلسوف الوجودي الروسي ألكسندرروفيتش برداييف ت1948 يطرح رؤية رافضة مغايرة، ويعترف فيها بهزيمة الإنسان أمام الألم في هذا العالم البارد والقاسي على الأرواح الوحيدة، يقول:
”إن الأنا تجتهد في تحطيم الوحدة عن طريق محاولات مختلفة: المعرفة، والجنس، والحب، والصداقة، والحياة الاجتماعية، والفن. وعلى الرغم من صحة الاعتقاد بأن هذه المحاولات تخفف من وطأة الوحدة، ولكن لا تقدر أية واحدة من هذه الوسائل على هزيمتها بصورة نهائية، لأنها جميعاً تقود إلى الموضوعية، والأنا لا تستطيع الوصول إلى الأنا الأخرى إلا في حالة المعاملة الداخلية. وتجد فقط في نهاية كل واحد من تلك الطرق الشيء الذي لايرحم، وهو المجتمع الموضوعي”.
– التناقض في “رؤية العالم”
وأنتقل الآن لوجه آخر من الإشكالية الفنية من زاوية طبيعة التلقي الوجداني والمعرفي للمنتجات الفنية الغربية، فيمكن القول أن الإشكالية لا تتمثل في مجرد هذا الانغماس المُنْسي الشائع في الفنون، ومتابعة ما تصدره شركات الإنتاج الرأسمالية في المجلات البصرية والسمعية، بل ما يزيد الأمر سوءاً وبؤساً هو ذلك التناقض والحيرة والاضطراب والشعور بالاغتراب واحتقار الذات وغير ذلك من الأنماط الشعورية التي تصيب المتابع العربي والمسلم لهذه المنتجات الغربية والشرقية في المجالات الفنية المذكورة، وذلك بسبب تشبّع هذه المنتجات بالقيم والأفكار والمضامين الأيديولوجية الحداثية. فالمشاهد العادي يقع أسيراً لصيغ متناقضة من الأفكار حيال “رؤية العالم”. ورؤية العالم مصطلح فلسفي وفني يدور حوله نقاش متنوع في الحقول الفلسفية والنقد الأدبي، ولكني هنا أستعمله بطريقة أولية، وكما يقول الناقد لوسيان غولدمان:”كل عمل أدبي أو فني كبير هو تعبير عن رؤية العالم”، “ففهم الوجود البشري حتى في مستوياته الفعلية والمادية مشروط بفهم المعاني الثقافية الكبرى التي تحايث ذلك الوجود” كما يشير أحد الباحثين. ولننظر مثلاً لكاتب القصة، أوالسيناريو، أو كاتب القصيدة، أو مؤلف الموسيقى، أو غيرهم من العاملين في مجال الإنتاج الفني فكل هؤلاء يملكون رؤية للعالم، بصورة ما، فقد ترعرعوا في بيئة مختلفة، وحظوا بتربية وتعليم ينتمي ثقافياً لتلك البيئة، وضمن مجتمع ما وفي سياق ديني أو لا ديني محدد، ثم أضافوا إلى كل ما سبق بصمتهم الخاصة التي يتفردون بها ضمن هذا السياق، وكل إنتاجهم الفني خاضع بصورة ما لكل هذه الشروط الاجتماعية والثقافية، والمتابع المسلم يستقبل كل هذه الأفكار والمضامين وهو الآخر قادم من بيئة ومجتمع وثقافة ودين مختلف، والمحصلة تصادم تصورات مختلفة، إن لم تكن متناقضة عن العالم. ويتولد عنها تشظي هوياتي، واضطراب روحي، وشيزوفرينيا وجدانية، وارتباك معرفي في تركيب التصورات والنماذج الأجنبية. وقد ينشأ عن ذلك ما لاحظته إحدى الدراسات التي رصدت تصدعات الذاكرة الجمعية في بعض مراحل التحديث في الغرب الأوروبي ذلك
“الانشقاق الداخلي خاصة بين سكان مدن القرن التاسع عشر الذي كانوا يتذكرون كيف كانت الحياة مادياً وروحانياً في عوالم غير حداثية مطلقة. وقد أدى هذا الانقسام الشعوري إلى نشأة إحساس بالعيش في عالمين في آن واحد“.
فالرواية والسينما المعاصرة تقدم الحياة بتصور مادي عدمي لا مجال للحديث فيه عن المصير الميتافيزيقي، بل هو كون بارد لا روح فيه ولا قانون سوى القوة القاهرة والانتقام العشوائي، كون عبثي لا معنى فيه سوى في الحب الوثّاب، أو المحبط، والبحث عن الشغف ومطاردة الحلم والانتصار على الشر الغامض، ومحاولة اختراع المعنى من الوجود عبر التفاصيل اليومية الصغيرة بعيداً عن السرديات الكبرى للوجود: الرب والآخرة والواجب وانتظار الثواب. في الفن المعاصر لا وجود للرحمة الإلهية ولا للطف الرباني، بل المصائب شرور فوضوية مفاجئة تداهم الناس من حيث لا يستطيعون المقاومة. والناس في الفن المعاصر يطاردون المجد، ويؤمنون بأنفسهم لا بالله. ويبحثون دوماً عن غد “دنيوي” أفضل، وعن تحقيق متكرر للذات عبر الاستمرار بالركض في هذا العالم.
– تعقيب أخير
وهكذا نصل إلى خلاصة أساسية، فقد أوضحت -فيما مضى- عمق البعد الروحي الذي تحدثه الفنون في النفس البشرية، وأن الفنون المعاصرة إلى جوار ذلك تضع المتلقي في وضع تناقضي فيما يخص رؤية المسلم للعالم والكون والإيمان، وهو ما يستدعي ملاحظة المسلم المبتلى بمتابعة هذه الفنون، فالقلب إنما خُلق أساساً لعبادة الله وحده وحبّه وخوفه ورجاؤه والشوق إليه، وهذه الروحانيات المصطنعة في الحقل الفني تشوش على القلب صفاءه، وتفسد عليه طمأنينته، وتصرفه عن الفضائل الدينية، وتحرمه من التلذذ بالمقامات الروحانية الصافية في طريق السلوك إلى الله تعالى.
اقرأ ايضاً: معنى الحياة في العالم الحديث ورقة بحثية يتناول فيها عبدالله والهيبي “سؤال المعنى” من منظور أوسع
استمتعت واستفدت من هذا البحث أو الدراسة حتى ، لن أقول مقالة فقط، للثراء اللغوي وعمق التناول والإحاطة بمصادر متنوعة
فعلا أصبح الفن المعاصر أفيون الشعوب كما كان يقال عن الأديان
ولذلك يقول الممثل والكاتب والمخرج وودي آلن : إن صناعة الأفلام تشتيت رائع عن معنى الحياة
جميل جدا المقالة