عام

التفسير الأخلاقي للتاريخ الإنساني:

سليمان الناصر

يُنظر إلى الأخلاق –في الغالب– على أنها جملة من الأوامر التوجيهية أو التكاليف الفردية، ولا يكاد يُلتفت إلى قدرتها التفسيرية التي يُفسر بها سلوك الأفراد والأمم والعنف والحرب والسلام في التاريخ الانساني، غير أن هذا الإغفال يُفوّت على الباحثين فهمًا جوهريًا: أن كثيرًا من التحولات والصراعات والحروب، كما كثيرًا من نماذج التعاون والإيثار والإزدهار، يمكن تفسيرها من خلال المبادئ الأخلاقية، لا بمجرد الإعتبارات الإقتصادية أو السياسية المجردة.

في سورة الحشر جاءت الآيات الكريمة بعدة نماذج، أختار منها واحدًا، وهو نموذج “مثالي واقعيً” داخل التاريخ، يبرز فيه أثر التخلق الرفيع في لحظة سياق سياسي واقتصادي:
“والذين تبوءوا الدار والايمان من قبلهم يحبون من هاجر اليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون”
هذه الآية تصف مشهدًا أخلاقيًا مثاليًا، لكنه لا ينتمي إلى الخيال الطوباوي، بل إلى سياق واقعي تاريخي ساقه القران العظيم في معرض المديح والثناء والتزكية، حيث يُثني المولى على الأنصار، أهل المدينة الذين استقبلوا المهاجرين، بموقفهم الأخلاقي والوجداني الرفيع، ليس فقط أن الأنصار استضافوا الغرباء المهاجرين في مدينتهم –وهذا وحده مستغرب في عوائد النفس البشرية حيث يغلب على البشر حتى اليوم النفور من الغرباء والمهاجرين- وليس فقط يحبونهم بل لا يجدون في صدورهم حاجةً لا حسدًا ولا حنقًا ولا غيضا من أن يُعطوا من الفيء وهم غرباء وأهل البلد لم يأخذوا منه شيئًا، بل أكثر من ذلك ليس فقط يرضون عن أن يُعطوا المال دونهم، بل أيضا يؤثرون هؤلاء المهاجرين الغرباء على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة! ياللعجب!
في عالمنا المعاصر يريد المهاجرون والغرباء فقط أن يتُركوا بسلام وأن يجدوا ملاذًا آمنا!

ما سر هذا التخلّق الانصاري المثالي الرفيع؟ (وهل الاقتداء إلا استجابة لنداء نماذج مثاليةٍ واقعيةٍ!)
ختم القران تلك الآية بمفتاح تفسيري أخلاقي لكل ما سبق من مواقف في الآية العجيبة:
“ومن يوق شح نفسه فاولئك هم المفلحون”

إن تدبّر هذه الآية القصيرة كفيل بقلب كثيرٍ من المفاهيم الذائعة في واقع البشر، خاصةً في عالمنا المعاصر: فالفلاح الحقيقي –الذي هو غاية الغايات في الدين والحياة– ليس نتيجة للتوسع في الحيازة والتملك أو الغلبة والسيادة على المواقع والموارد، الفلاح الانساني هو ثمرة التحرر من شح النفس والتعالي عليه.

فما هو الشح؟

الشح – كما فسره بعض الصحابة والتابعين – هو أشد من البخل، وهو ليس مجرد الإمساك والطمع، بل هو الحرص على ما في أيدي الآخرين، يمكن القول “الشح أن ترغب بما بيد غيرك، والطمع أن تحرص على ما بيدك”، هذا مستفاد مما روي عن ابن عمر في قوله (ومن يوق شح نفسه) قال : “ليس الشح أن يمنع الرجل ماله، ولكنه البخل، وإنه لشر، إنما الشح أن تطمح عين الرجل إلى ما ليس له”،
وعن طاوس قال: “البخل أن يبخل الإنسان بما في يديه، والشح أن يشح على ما في أيدي الناس”.
وكان الحسن يرى أن نظر الرجل إلى امرأةٍ لا تحل له أنه من الشُّحُّ.
وقد اختار ابن تيمية المعنى المروي عن ابن عمر وطاووس، ذاكرا الآية الكريمة؛ فلعله قصد الاستدلال بها على هذا التفسير؛ فقد نزّه القران العظيم الأنصار عن أن توجد في نفوسهم رغبة في ما أُوتي المهاجرون، مع حاجتهم إليه.

وهنا يظهر أن الشح ليس سلوكًا عابرًا، بل غريزة متأصلة في النفس البشرية، وهو ما أكده القرآن بقوله في سورة النساء “وأُحضرت الأنفسُ الشحَّ” أي أن الشح حاضر في كل نفس لا ينفك عنها بيسر، بل يحتاج مجاهدة ووقاية، كما يحتاج البدن من السموم والآفات.
اللافت أن هذه الاية الأخيرة وردت في سياق خوف المرأة من نشوز زوجها وكيف أن “الصلح” وسيلة مباحة وخيّرة، وجوهر الصلح ضد الشُّحُّ، فالصلح يقوم على (التنازل عن بعض حق الذات لصالح الغير) في حين أن الشح هو (التشوّف والتطلّع لأخذ حق الغير لصالح الذات)، وكما أن الشخ مؤثر في علاقة الزوجين- وهما أساس المجتمع- فهو أيضا مؤثر في السياقات الأوسع، فالتنافس بل التعانف والتقاتل في عوالم السلطة والسيادة والحيازات والأملاك والأموال والعقارات والمكان والمكانة وكل ما تتواجه فيه الأمم والشعوب من الأمور الدنيوية، كل هذا التصارع والتنازع مبني على هذا الشحّ المُهلك، إن أثر الشح لا يقتصر على الأفراد، بل يمتد إلى الجماعات والعلاقات الدولية، ويفسر كثيرًا من التنافسات والصراعات الدامية، ولا أدل على هذا الأثر النافذ تاريخيا من حديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: “اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم.” رواه مسلم في الصحيح.
وهذا بيان نبوي صريح بأن الشح آفة فاعلة تاريخيا، وأنه أحد الأسباب الجذرية لانهيار المجتمعات وتقاتلها وانحطاطها حتى يبلغ يدفع الأفراد إلى استباحة ما لا يجوز من دماء وأعراض وأموال، الشُّحُّ هو طغيان إرادة الامتلاك والتسيد والعلو على كل اعتبار أخلاقي أو شرعي.

ويُلفت النظر هنا المفارقةُ الأخلاقية التي تُشير الآية إليها إشارةً: أن الإنسان يسعى للفلاح والنجاح والكسب والظفر، لكن هذا السعي، إذا استُحكم فيه الشح، يُفضي إلى الهلاك لا إلى الفلاح، فينقلب مقصوده ويصل الى ضد ما سعى اليه، فالشح يحوّل المصلحة إلى مفسدة، والرغبة في البقاء والتسيّد إلى استباحة للغير والاستيلاء على موارده وأملاكه، وكثير من الناظرين في السياسة ذلك يغلفون ذلك بمسمى “المصالح”، وهي مسمى مزيف يوقع في التلبيس، وهو بحاجة إلى مزيد تدقيق لأنه يخلط بين ما هو نافع فقط وما هو صالح، والصلاح معنىً أخلاقي، في حين إن الواقع السياسي والاقتصادي في العصر الحديث قائم على تعظيم المنفعة -حتى لو كانت مجردة- لا على اعتبار الصلاح، إن الإنسان حارث وهمام، فـ”الإرادة” هي مبعث حركة الإنسان وسعيه – فردًا أو جماعة –وإذا لم يهذب البشر ارادتهم ويحكمون قيادها توقّيًا مما يحطُّ بها -خاصة التوقِّي من الشح-، فإنها ستتغوّل وتتطغى وتستبيح وتُفسد في الأرض بدل إصلاحها.
وهنا تظهر الحاجة إلى إعادة تفسير التاريخ الإنساني تفسيرًا أخلاقيًا، يُدرك أن أصل العداوات الكبرى إنما هو في “شح النفوس”، لا في مجرد نقص الموارد أو اختلاف المصالح، لايقف الشحّ عند حد ولا يكفيه قدرٌ، بل كما أشار عبد الحق بن عطية في تفسيره في عبارة جامعة:
“شحُّ النفس فقرٌ لا يُذهبه غنى المال، بل يزيده وينصبّ به” فكلما زاد تملكه زاد فقرُه ورغب بالمزيد، وتلك مفارقة أخرى ومعاقبة بنقيض القصد، أو قل: مكر إلهي مخيف، فالغني الشحيح أشد فقرًا من الفقير القنوع، لأن نفسه لا ترتوي، وتبقى في حالة طلبٍ دائمٍ وهلعٍ متصاعد، الشُّحُّ العدواني لا ينتج انسانا مكتفيًا بل إنسانًا هلوعًا، بل مجتمعًا هلوعًا جزوعًا منوعًا.
“ومن يوق شح نفسه فاولئك هم المفلحون”
الفوز والنجاح والفلاح لا يُبنى على الهيمنة والغلبة التي أفضى إليها رسوخ الشُّح وتغلغله في نفس الإنسان، بل الفوز والفلاح نتيجة تزكية الأنفس، وقهر شحها وطمعها ومدّ عينها لما بيد الغير، والانتصار على حرصها والتحرر منه، أن تكون الأخلاق في قلب المسار الإنساني لا في الهامش:من هنا يبدأ الإصلاح، وتُفهم حركة التاريخ، ويعتبر أولو الأبصار والنهى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى