- ديڤد جيفنز
- ترجمة: غادة الراضي
- تحرير: براءة بسام
ما الأنثروبولوجيا؟
هل تشاركني الاهتمام بمعرفة نشأة حياة الإنسان بكيفيّتها و بمكانها وزمانها؟ وكيف كانت أُولى المجتمعات واللُّغات البشريّة، ولماذا تطوّرت الثقافات وتفرّعت وامتدّت بمسارات مختلفة لكنها غالبًا ما تلتقي عند نقطةٍ ما وتصبح متشابهة بشكل جليّ؟ وكيف للعصابات الصغيرة والقرى أن تعبّد طريقًا للشيوخ ورؤساء الدول والإمبروطوريات الجبارة؟.
تحياتي، مارڤن هاريس
كتب هذه الكلمات عالم الإنثروبولوجيا الأمريكي مارڤن هاريس ينقل فيها بعضًا من سحره، ولكن ما هي الأنثروبولوجيا؟
دراسة الكائن البشري
تحكي كلمة الأنثروبولوجيا القصة الأساسية. فمن الأنثروبوس اليونانية اشتقاق الكلمة (الإنسان) و اللوجوس (دراسة)، فهي تُعنى بدراسة الإنسان من بدايته قبل ملايين السنين حتى يومنا هذا.
لا يوجد إنسان غريب بالنسبة للأنثروبولوجيا، في الواقع، بين العديد من التخصصات التي تدرس جنسنا البشري-الإنسان العاقل- وحده علم الإناسة (الأنثروبولوجيا) هو الذي يسعى لفهم البانوراما بأكملها في الفضاء الجغرافيّ والزمان التطوريّ للوجود البشريّ.
على الرغم من سهولة تعريف الأنثروبولوجيا، إلا أنّه يصعب وصفها، فموضوع بحثها غريب (مثل: تقاليد عبادة النجوم للسكان الأصليين الأستراليّين) وشائع (مثل: تشريح القدم). ونقاط تركيزها تتراوح بين الواسعة (تطور اللغة) وحتّى الدّقيقة جدًّا (استخدام وارتداء أدوات حجر السَّبَج=نوع من الأحجار الكريمة)، قد يدرس علماء الأنثروبولوجيا الهيروغليفية القديمة للمايا، وموسيقى الأقزام الأفارقة، وثقافة الشركة في تصنيع سيارات أمريكية.
لكن دائمًا ما يربط هدف مشترك بين هذه المشاريع المختلفة إلى حد كبير وذلك لتعزيز المعرفة بكينونتنا، وصيرورتنا، وإلى أين ستؤول إليه أمورنا في المستقبل.
الأنثروبولوجيا هي الفضول؛ بمعنى آخر فجميعنا “نمارس” الأنثروبولوجيا لأنها متجذّرة كنزعة فضولية إنسانية عالمية. نشعر بالفضول حيال أنفسنا والآخرين، الأحياء وكذلك الأموات، هنا وفي جميع أنحاء العالم.
نطرح أسئلة أنثروبولوجية:
- هل تتواجد عادات الزواج بكل المجتمعات؟
- كنوع، هل البشر بالفطرة عنيفين أم مُسالمِين؟
- هل كان لدى البشر الأوائل بشرة فاتحة أم داكنة؟
- متى بدأ الناس يتحدثون اللغة لأول مرة؟
- ما الصلة بين البشر والقرود والشمبانزي؟
- هل لا يزال دماغ الإنسان العاقل يتطور؟
مثل هذه الأسئلة هي جزء من الأنثروبولوجيا الشعبيّة التي تُمارَس في ساحات المدارس ومباني المكاتب ومقاهي الأحياء. ولكن إذا كنا جميعًا هواة أنثروبولوجيا، فماذا يدرس المحترفون؟ كيف يختلف علم الأنثروبولوجيا عن المشاركة في الرأي العادي و”الحس المُشترَك”؟
الأنثروبولوجيا تعتمد أسلوب المقارنة:
كتخصص، تبدأ الأنثروبولوجيا بفكرة بسيطة لكنها قوية؛ يمكن فهم أي تفاصيل عن سلوكنا بشكل أفضل عندما يُنظر إليها وَفق خلفية نطاق كامل للسلوك البشريّ. يحاول أسلوب المقارنة شرح أوجهِ التشابه والاختلاف بين الناس بشكل كلّيّ، في سياق الإنسانية كَكُلّ.
تسعى الأنثروبولوجيا إلى الكشف عن مبادئ السلوك التي تنطبق على جميع المجتمعات البشرية:
بالنسبة لعالم الأنثروبولوجيا، فإن التنوع نفسه – الذي يُرى في أشكال وأحجام الجسم، والعادات، والملابس، والكلام، والدين، والنظرة العالمية – يوفر إطارًا مرجعيًا لفهم أي جانب من جوانب الحياة في أيّ مجتمع معيّن.
للتوضيح، تخيّلْ وجود حياتنا بأكملها في عالم أحمر: طعامنا، ملابسنا، سيارتنا – حتى الشارع الذي نعيش عنده – كل شيء من حولنا بلون أحمر مختلف. ومع ذلك، فمن المفارقات في العالم القرمزي، أليس من المعقول أنه لن يكون لدينا فهم حقيقي للون الأحمر نفسه، ولا حتى درايةً بمفهوم اللون، دون أن نكون قادرين على مقارنة الأحمر بالأصفر، والأزرق، والأخضر، وجميع ألوان قوس قزح؟
“لقد كنا [علماء الأنثروبولوجيا] أول من أصرّ على عدة أشياء: أن العالَم لا ينقسم إلى أتقياء ومؤمنين بالخرافات، وأن هناك منحوتات في الأدغال ولوحات في الصحاري، وأن النظام السياسيّ ممكن بدون سلطة مركزيّة وعدالة مبدئية بدون قواعد مُنسَّقَة، وأنّ قواعد العقل لم تكن ثابتة في اليونان، وأنّ تطور الأخلاق لم يكتمل في إنجلترا. والأهم من ذلك، كنا أول من أصرّ على أننا نرى حياة الآخرين من خلال منظور خاصّ بنا وأنهم يرون حياتنا من خلال منظور آخر خاص بهم.
-كليفورد غيرتز
المنظور التطوريّ
كمجال بحثيّ، تتبع الأنثروبولوجيا نهجًا تطوريًّا واضحًا لدراسة السلوك البشريّ. يقرّ كل حقل من الحقول الفرعية الأربعة الرئيسية للأنثروبولوجيا – الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية والبيولوجية واللغوية والأركيولوجيا- بأن الإنسان لديه تاريخ تطوري طويل يجب دراسته إذا كان على المرء أن يعرف ماذا يعني كونه إنسان.
الأنثروبولوجيا الثقافية
في أمريكا الشمالية، يُطبّق أكبر فرع للأنثروبولوجيا الثقافية في هذا التخصص الأسلوبَ المقارن والمنظور التطوري على الثقافة البشرية.
تمثل الثقافة قاعدة البيانات الكاملة للمعرفة والقيم والطرق التقليدية لرؤية العالم، والتي تم نقلها من جيل إلى آخر – بشكل غير وراثي بصرف النظر عن الحمض النووي – من خلال الكلمات والمفاهيم والرموز.
يدرس علماء الأنثروبولوجيا الثقافيّة البشر من خلال عدسة وصفيّة تسمى الطريقة الإثنوغرافية، تتضمن ملاحظة الشخص نفسه أثناء المقابلات وجهاً لوجه، والتي تُجرى عادةً باللغة الأم. يقارن علماء الإثنوغرافيا ما يرونه ويسمعونه هم أنفسهم مع ملاحظات ونتائج الدراسات التي أجريت في مجتمعات أخرى. في الأصل ، قام علماء الأنثروبولوجيا بتجميعها معًا كطريقة حياة كاملة لثقافة ينظر إليها كَكُلّ. ينصبّ التركيز في العصر الحاليّ على جانب أضيَق من الحياة الثقافية، كالاقتصاد أو السياسة أو الدين أو الفن.
يسعى علماء الأنثروبولوجيا الثقافية إلى فهم التصوّر الداخلي لمجتمعٍ ما، مما يساعد الآخرين غيرهم على فهم السلوكيات التي قد تبدو غريبة أو بلا معنى ، مثل الرسم على الوجوه أو الخدش. فمن خلال أسلوب المقارنة يتعلم عالم الأنثروبولوجيا تجنب “الاستعلاء العرقي” -أي الميل إلى تفسير العادات الغريبة على أساس المفاهيم المسبقة المستمدة من الخلفية الثقافية للفرد- كما أنها أيضًا تساعدنا هذه العملية على رؤية مجتمعنا – اللون “الأحمر” مرة أخرى – من خلال عيون جديدة.
إننا أحرار بأن نغير مبدأ ما ونطلق عنان رؤيتنا لمحيطنا اليومي بنورٍ فريد، بنفس الشعور بالدهشة والاكتشاف الذي يمر فيه علماء الأنثروبولوجيا عند دراسة حياة قبيلة برازيلية في غاباتٍ مطيرة. ورغم ظروف عيش العديد من علماء الأنثروبولوجيا الثقافية وبعدهم آلاف الأميال عن بلادهم وإقامتهم في أكواخ من القش وسط أسوار من الخيزران، كل ذلك لنقل صورة المجتمعات الأخرى= فإن هنالك أعدادًا متزايدة حالياً تدرس المجموعات الامريكية بدلًا من ذلك وتطبّق وجهات النظر الأنثروبولوجية على ثقافتهم ومجتمعهم.
الأنثروبولوجيا اللغوية
تحمل اللغة أحد جوانب الثقافة ولها سحرًا خاصًّا لمعظم علماء الأنثروبولوجيا، وهي السمة المميزة للكائن البشري. لقد مكّن تنظيم الأنظمة الصوتية من تجاوز حدود الذاكرة الفردية إلى لغة الإنسان العاقل. الكلام هو الوسيلة الأكثر فعالية للتواصل منذ الحمض النووي لنقل المعلومات عبر الأجيال، كما تعتمد الثقافة على اللغة – و من اللغة تكمن معرفة البشرية.
يمثل علماء الأنثروبولوجيا اللغوية أحد الفروع التقليدية للمعرفة ، ينظرون إلى التاريخ والتطور والبنية الداخلية للغات البشرية، يدرسون ما قبل التاريخ ويربطون بين المجتمعات المختلفة، ويستكشفون استخدام ومعنى المفاهيم اللفظية التي يتواصل بها البشر والعقل. يسعى علماء الأنثروبولوجيا اللغوية إلى شرح طبيعة اللغة نفسها، بما في ذلك الروابط الخفية بين اللغة والدماغ والسلوك.
اللغة هي السمة المميزة لجنسنا البشري وعليها يكون اعتماد الثقافة البشرية .
إن علماء الأنثروبولوجيا اللغوية بالطبع لم يتفرّدوا وحدهم بدراسة الأبعاد التاريخية للثقافة، و يدركون أنهم بسعيهم لفهم المجتمع اليوم، يجب أن لايكون الانتباه محصورًا على جماعات الحاضر فقط.
كما أنهم يحتاجون إلى معلومات حول ما قد كان من قبل. ولكن كيف يمكنهم تتبع عصور ما قبل التاريخ البعيدة والتي تعود إلى آلاف السنين للمجتمعات التي لم تترك لها لوحٍ محفوظ؟
علم الآثار/الأركيولوجيا
لحسن الحظ، فإنّ التاريخ البشري مكتوب -ليس مقتصرًا على الأبجديات والكتب بل محفوظ في أنواع أخرى من بقايا المواد في لوحات الكهوف والرسوم التوضيحية والأدوات الحجرية المهملة والأواني الفخارية والتماثيل الدينية والسِّلال المتروكة-أي أشلاءً وبقع ممزقة- من المجتمعات القديمة. يفسر علماء الآثار هذا السجل المتشظي والرائع في كثير من الأحيان لإعادة تجميع الثقافات القديمة وأساليب الحياة المنسية.
قام علماء الآثار -المهتمين منذ فترة طويلة بالمجتمعات الكلاسيكية في اليونان وروما ومصر- بتوسيع دراساتهم في اتجاهين للماضي حوالي 3 ملايين سنة للعظام والأدوات الحجرية لأسلافنا البشريين البدائيين، و للحاضر لإعادة هيكلة أساليب الحياة والمجتمعات في أمريكا القرن التاسع عشر.
بالنسبة للحاضر فيعمل العديد من علماء الآثار في المجال المتنامي لإدارة الموارد الثقافية، لمساعدة الحكومات الفيدرالية وحكومات الولايات والحكومات المحلية في الحفاظ على التراث المعماري والتاريخي والثقافي لأمتنا.
الأنثروبولوجيا البيولوجية
إلّا أنّ التاريخ البشري يبدأ في مكان مختلف من زمن بعيد، حيثُ بدأ قبل 4 ملايين سنة على الأقل عندما سلكت مجموعة من الكائنات الشبيهة بالقردة من شرق إفريقيا طريقاً تطورياً فريدًا.([1]) وبالتالي، فإنّه على علماء أنثروبولوجيا المنظور المقارن التوسع بحيث يشمل أكثر من المجتمعات البشرية في عصور ما قبل التاريخ ، فالسلوك له جذور رئيسية كذلك. لفهم الكائن البشري جيّدًا يجب أن نتعلّمَ المزيد حول مكانه في المواطن الطبيعية للمخلوقات الحيّة
تنظر الأنثروبولوجيا البيولوجية (أو الفيزيائية) إلى الإنسان العاقل كجنس و تصنيفات متتبعة أصولها البيولوجية وتحسنها التطوري وتنوعها الجيني. يدرس علماء الأنثروبولوجيا البيولوجية عصور ما قبل التاريخ الثقافي الحيوي للإنسان وذلك لفهم الطبيعة البشرية وفي النهاية تطور الدماغ والجهاز العصبي نفسه.
إذن هذه هي الفروع الأربعة الرئيسية التي تجعل من الأنثروبولوجيا متكاملة: الأنثروبولوجيا الثقافيّة، واللغويّة، وعلم الآثار، والبيولوجيّة. تطرح الأنثروبولوجيا السؤال الأشد صعوبة والأكثر أهمية: ماذا يعني أن تكون إنسانًا؟ في حين أن السؤال قد لا يُعطى حقّه من الإجابة، إلّا أنّ دراسة الأنثروبولوجيا – ما أطلقت عليه عالمة الأنثروبولوجيا الشهيرة لورين إيزلي“الرحلة الهائلة“- قد جذبت بعضًا من أعظم المفكرين في العالم، والذين من خلال اكتشافاتهم غيروا في فهمنا لأنفسنا لتضع بصمةً باقية مدى الحياة.
ثم اعرف نفسك…
– ألكسندر بوب
الأنثروبولوجيا كمهنة
يجري علماء الأنثروبولوجيا دراسات علميّة وإنسانيّة عن ثقافة وتطور البشر، لكل مجال من مجالات الأنثروبولوجيا الأمريكية الأربعة مهاراته ونظرياته وقواعد بياناته الخاصة بالمعرفة، لذلك فإن معظم علماء الأنثروبولوجيا يطورون وظائف لتخصص واحد فقط من هذه التخصصات الفرعيّة الأربعة. قد يتخصص علماء الأنثروبولوجيا في منطقتين جغرافيتين أو أكثر من العالم، مثل أوقيانوسيا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا، لأسباب تتعلق بالمقارنة.
تقدم أكثر من 350 كلية وجامعة أمريكيّة؛ تخصصًا جامعيًا في الأنثروبولوجيا، والعديد منها يُقدِّم دورات دراسيّة. نظرًا لأن موضوع الأنثروبولوجيا واسع جدًّا، يمكن أن يكون التخصص أو التركيز الجامعيّ جزءًا من خلفيّة واسعة من الفنون الحرّة للرّجال والنساء المُهتمّين بالطب والحكومة والأعمال والقانون.
التدريب
يوصى بالحصول على درجة الدكتوراه للحصول على وضع مهنيّ تام كعالم أنثروبولوجيا، على الرغم من أن العمل في المتاحف ومختبرات الأنثروبولوجيا الفيزيائيّة وعلم الآثار الميداني غالبًا ما يكون ممكنًا بدرجة الماجستير. إن فرص العمل غير الأكاديمية المتاحة حالياً لدكتوراه الأنثروبولوجيا أكثر من الوظائف الأكاديمية. يبدأ طلاب الدكتوراه تدريبهم على نحو متزايد مع وضع الوظائف الأكاديميّة وغير الأكاديميّة في الاعتبار، ويسعون للقبول في البرامج التي تشمل دورات الأنثروبولوجيا التطبيقيّة.
([1]) هناك نقودات عدة لنظرية التطور عموما، وللتطورية الأنثروبولوجية خصوصا. طالعها في: “قصة الأنثروبولوجيا” من إصدارات عالم المعرفة.
اقرأ أيضًا في أثارة: كيف تدير وقتك عندما يكون كل شيء عاجلًا