- مات ماكمانوس*
- ترجمة: فاطمة الشحي
يتوجه مفكرو اليمين اليوم إلى نيتشه وغير من الرجعيين الألمان[1] لتأسيس سياستهم النخبوية والقتال ضد مشروع اليساريين الساعي للتحرر الكوني.
في كتابه الجديد -المتقن- “المذهب المحافظ: القتال من أجل التقليد”، يسأل إدموند فوست سؤالًا وجيهًا: إذا كان اليسار ذكيا جدا، فلماذا نحن إذن لسنا في موقع القيادة؟ منذ توصيف جون ستيوارت مل التهكمي للمحافظين بأنهم الحزب “الأحمق”، بدا أن العديد من سياسيي الجناح اليميني -ببساطة- سعداء من سخرية وابتذال وتحيزات خصومهم العقائدية. لكن الوقت أظهر أننا نفعل ذلك ضد مصلحتنا الخاصة؛ لأن إلقاء التهم دون فهم خصومنا يعد مسعىً متهورًا.
من جانب اليمين السياسي اليوم، يلوح في الأفق ثلاثة مفكرين ألمان متأخرين هم: فريدريك نيتشه ومارتن هايدجر وكارل شميت. كتب الثلاثة معظم أعمالهم المهمة بين عامي 1850 و 1950، وهو وقت بروز التحول الجذري وسقوط جماعة Luciferian” ” في ألمانيا. وعلى الرغم من الاختلافات الكبيرة بينهم، فقد أظهر الثلاثة معا انزعاجا عميقا من المساواة والليبارتية الموجودة في الحداثة.
أما بالنسبة للمدافعين بشدة عن التسلسل الهرمي الرأسمالي أمثال جوردن بيترسن، وغير الليبراليين مثل أدريان فيرميول وبالطبع اليمين البديل المتمثل بنيتشه وهايدجر وشميت= فهو الذي يوفر الدرع الفكري لخوض المعركة ضد اليسار. والمفارقة هي أن الثلاثي الرجعي قد حصل أيضا على نصيبه العادل من المعجبين والمترجمين أصحاب الميول اليسارية أنفسهم؛ مما يجعل فحص وانتقاد عملهم أكثر أهمية لليساريين اليوم.
العدمية والهرمية لدى نيتشه
[ليس الناس سواسية]: كل إعلاء للنوع الإنساني كان وسيبقى أبدا من صنع مجتمع ارستقراطي ما، بوصفه مجتمعا يؤمن بسلم طويل من المراتب والفوارق القيمية بين إنسان وآخر، وبه حاجة إلى شكل أو آخر من العبودية. فبدون الشفقة التي تثيرها المسافة التي تتولد عن الفارق الطبقي المتأصل، وبعيدًا عن النظرة المستمرة للطائفة الحاكمة التي تشرف وتطل على الأتباع والأدوات من علٍ، وبعيدًا عن كونها تتمرن باستمرار على أن تأمر وتطاع وتقمع وتُبعِد = ليس من الممكن أن تتولد هذه الشفقة الدفينة، تلك الرغبة الغامضة وغير الظاهرة البتة، هي ذلك التوق الدائم والمستمر إلى زيادة هذه المسافة داخل النفس، وتشكيل أحوال تزداد علوا وندرة وبعدا وسعة وشمولا؛ باختصار: إعلاء النوع المسمى “إنسانا”، أو استمرار “تغلب الإنسان على ذاته” كي نستعمال صيغة أخلاقية بمعنى فوق أخلاقي.
– نيتشه، ما وراء الخير والشر –
نيتشه هو الأكثر تأثيرا بين الثلاثة، وذلك لسببين؛ الأول التأثير القوي لأفكاره على هايدجر وشميت، والثاني تأثيره الهائل على الثقافة ككل. إضافة إلى أنه يشكل حالة نادرة بين الفلاسفة الألمان: لأن قراءته ممتعة، كما كان له حس دعابة حقيقي ولم يكن يحب شيئا أكثر من خروجه عن المألوف من المعاني.
على مر السنين ظهر العديد من المفكرين والحركات اليسارية المزعومة. ابتداء من الفنانيين المعادين للثقافة إلى ما بعد البنيويين والنسويين أمثال ميشيل فوكو وجوديث باتلر، وكلهم استفاد من نيتشه. من المحتمل أن يفاجئ هذا المفكر الرافض للمسيح، الذي تنبأ بوضع حد لـ مساواة “أخلاق العبيد” في المسيحية (إلى جانب نسلها: الليبرالية والاشتراكية) ليحل الإنسان السوبر مان والارستقراطيون مكانهم. كما قال مالكوم بول في كتابه ضد نيتشه: ليس للمساواة نقاد أشد من نيتشه، والذي تتمثل رؤيته الأساسية فيما يتعلق بجيانالوجيا الأخلاق “في أن عدم المساواة الاجتماعية هي مصدر مفاهيم القيم لدينا، والشرط الضروري للقيمة ذاتها”.
في القلب من نظرة نيتشه هنالك قلق من مشكلة العدمية. في ذهنه كانت العدمية هي النتيجة الحتمية لسقوط الشرف المتمثل في أرستقراطيات الماضي الشرسة واستبدالها بالمسيحية، التي تتظاهر بكونها دين الرحمة والشفقة على الضعيف، والفقير والمتواضع. بعيدا عن كونها قائمة على الحب، جادل نيتشه بأن المسيحية كانت شكلا من الأفلاطونية بالنسبة للناس، التي أعطت صوتا لاعتقادهم الساخط أن العالم الحقيقي ملئ بالشر والمعاناة لدرجة أنه لا يمكن تبريره إلا إذا كان هناك عالم أبدي في مكانٍ ما.
في هذا العالم الأبدي، فإن المعاناة والعنف التي تسبب بهما الأرستقراطيون الأغنياء سيوجهان ضد أولئك الذين كانوا أقوياء ومتعجرفين في الحياة الفانية. ليس من قبيل الصدفة أنه في كتابه جينالوجيا الأخلاق، أولى نيتشه عناية كبيرة لتعليق ترتليان بأن أحد أعظم الأفراح في الجنة هي مشاهدة معاناة الملعونيين في الجحيم. فلكونه غير قادر على تحقيق الانتقام في هذه الحياة، سيستمتع الضعيف بالانتقام في الحياة الآخرة.
نظر بعض اليساريين بإيجابية إلى عداء نيتشه للمسيحية، باعتباره سلاحا تحرريا ضد الأخلاق القمعية. لكن نيتشه كان يفكر في شيء مختلف كليًا. لقد أحس أن الرغبة في التحرر والمساواة كانت ببساطة استمرار للمشروع اللاهوتي المسيحي تحت ستار علماني جديد.
منذ الثورة الفرنسية؛ كان استمرار المسيحية – كما ضمنها نيتشه في ملاحظاته في إرداة القوة – في دفع المساواة النابعة من أخلاق العبيد أكثر عالمية من أي وقت مضى، والذي جلب معه انهيار المؤسسات والأفراد الخارقون الذين وحدهم من يستطيع تقديم إحساس بالمعنى في عالم عدمية ما بعد الإله. كان هذا صحيحا بالنسبة لليبرالية وخاصة الاشتراكية، التي قررت أن الضعيف والمريض وغير المستحق يجب أن يستولوا على العالم لإنهاء الاستغلال والسيطرة. لم يكن لدى نيتشه سوى الازدراء لهذه المذاهب.
من ذا الذي أبغضه بين رعاع اليوم، إنهم الاشتراكيون، رسل التشاندالا، الذين يقوضون غرائز العامل، ومتعته، وشعوره بوجوده الصغير، الذين يجعلونه حسودا ويعلمونه أن ينتقم. الخطأ لا يكمن أبدا في عدم تكافؤ الحقوق، إنه يكمن في المطالبة بتساوي الحقوق… ما هو الشر؟ إنه ما قد قلته: إنه كل ما يأتي من الضعف، ومن الحسد، والانتقام؛ الأناركي والمسيحي لهما الأصل ذاته…”
فقط نظام لا مساواة فيه -كما يجادل نيتشه- هو ما من شأنه أن ينتج أرواحا مبدعة للحياة حقا، ومؤكدة للقيم. ليس ممكنا الحكم على هذه القيم أخلاقيا في عالم عدمي، لكن فقط وفقا لمقياس وحيد متبقي بعد موت الإله: إنه الحكم الجمالي. بالنسبة لنيتشه، فإن الإنسان السوبرمان هو رجل الروح، الذي سيستخدم الآخرين مطية له في مشاريع هائلة وعنيفة في كثير من الأحيان؛ وهو غير مبال، إن لم يكن معاديا بشكل مباشر، بالجماهير التي لا قيمة لها في الغالب، والتي تستمد قيمتها الأساسية من قبل السوبرمان القادم. كان نيتشه يرى أن الجماهير الدنيا عليها فقط أن تقبل استغلالها من قبل أسيادها.
شميت وهايدجر عن الحداثة
سيكون من المبالغ فيه أن نصف نيتشه بالـ “مفكر ما قبل نازي”. فبالرغم من تأثيره العميق في الحركة الفاشية واليمينية المتطرفة، إلا أن ازدراءه للقومية ومعاداة السامية والفردية الصارمة تقاوم الصورة التي تقدمه على أنه مفكر نازي قبل أن تكون هناك نازية، كما ورد عن أخته من بين آخرين.
لا يمكن قول الأمر نفسه عن شميت وهايدجر. فكلاهما كان عضوا نشيطا في الحزب النازي، وكلاهما لعب دورا مهما في إضفاء الشرعية عليه. والمفارقة، أنه على الرغم من اتهام شخصيات مثل جوردن بيترسن بأن أي نوع من الدفاع عن ماركس أو الماركسية هو في الواقع اعتذار عن المذابح الجماعية؛ فلم تمنع التزامات شميت وهايدجر السياسية من التأثير على اليمين المعاصر.
يقع نقد الحداثة في المركز من رجعية شميت وهايدجر السياسية. يأخذ هذا النقد عدة أشكال: الشك في الإنسانية، القلق بشأن المكانة المميزة للفردية، النسبية في الأخلاق الحديثة، انزعاج من صعود الطبقات الثرثارة، والكلام الفارغ في الديمقراطية التمثيلية الليبرالية، وفوق كل شيء: ازدراء قلة الالتزام بالصراعات الوجودية التي تولد الأصالة والمعنى.
ومثل نيتشه، يلتزم شميت وهايدجر بفكرة أن التغلب على قيود الحداثة يعني استبدال المذهبين الحداثيين الكبيرين وهما الليبرالية والاشتراكية بنوع جديد من السياسة القومية الكلية الموجهة من قبل شخصية القائد أو بشكل أكثر غموضا “المهمة الروحية للشعب الألماني”.
إذن، لم يكن لديهما الكثير ليقولانه عن الليبرالية أو الاشتراكية. بالنسبة لهايدجر كتب في مقدمة في الميتافيزيقا “أن كلا منهما يتشابهان من جهة الميتافيزيقا” في ماديتهم واهتمامهم وقلق المساواة بشأن رفاهية الإنسان. عندما تقوم بتفكيكها، فإن ما يسمى بالمناظرات العظيمة بين الليبرالين والاشتراكيين كانت في نهاية المطاف خلافات تقنية حول كيفية بناء وتوزيع برادات أفضل.
رغم أن شميت كان أكثر دقة، إلا أنه كان سيتفق مع هايدجر إلى حد كبير. بالنسبة لشميت فإن الصراع السياسي كان ويجب أن يبقى في صميم الحياة البشرية لأنه يقدم العظمة والتجانس للمجموعات البشرية. تربطنا السياسة ببعضنا من خلال رؤية لاهوتية -في نهاية المطاف- حول الكيفية التي يجب أن يكون عليها العالم ومقارنتها مع الأعداء السياسيين. تم تشكيل الهوية المشتركة -وإن جزئيا (وأحيانا بعنف)- من خلال الصراع ضد الخصوم السياسيين.
بحسب شميت، فإن الخطأ الكبير لليبرالية كان افتراضها أنه يمكن تجاوز السياسة من خلال الحديث عن المؤسسات التمثيلية، مما جعلها زائفة وضعيفة. الاشتراكية الماركسية كانت أفضل بعض الشيء لأنها أكدت على الأهمية التاريخية للصراع الطبقي كمحرك للمعنى. لكن على المدى الطويل أراد الاشتراكيون أيضا نهاية المعنى الذي يُعطى للصراع السياسي، الذي سيتم تجاوزه -إلى جانب إبعاده- في الديمقراطية الاقتصادية القادمة.
يسخر شميت من هذه الحياة باعتبارها أحد مذاهب الهيدونية البيروقراطية الموجهة حيث سيضطلع مسؤولو الدولة بدور القائمين على الرعاية ويخنقون دوافع وعنف البشر في كثير من الأحيان.
الرجعيون والليبراليون والاشتراكيون
يخدم تفريغ كتابات الرجعيين الألمان –من بين الحجج الأكثر عمقا وإزعاجا المتاحة لسياسة الجناح اليميني – غرضا يتجاوز النقد، يمكن أيضا أن يساعد في زيادة فهمنا لسياسة اليسار.
“ستنبت زهرة الثالوث دائمة الخضرة لأنها ستكون دائما جاذبة لأولئك الذين يرون أن الدافع لمزيد من الديمقراطية يمثل خطرا يجب مواجهته وهزيمته.”
لقد جادلتُ مؤخرا بأن الليبرالية والاشتراكية لديهما صلات فكرية مهمة. حتى وإن كانا يمثلان تقاليد سياسية مختلفة. فكلاهما ينظر إلى البشر بأنهم متساوون أخلاقيا، وكمعارضين للتسلسل الهرمي التقليدي، يدعون إلى أكبر قدر ممكن من الحرية. الليبرالية تتعثر في سعيها الدوؤب ليس من أجل الديمقراطية السياسية فقط ولكن من أجل الديمقراطية الإقتصادية.
لكن كلا المذهبين كانا على طرف نقيض من الآراء الرجعية لنيتشه وهايدجر وشمت. على الرغم من الاختلافات بينهم اتحد الثلاثي في اعتقادهم أن المشروع الحداثي يمثل خطرا أساسيا لأنه وعلى شكل خاص يسمح بالكثير من المساواة والحرية. فالوجود يكون ذا مغزى فقط بوجود التسلسل الهرمي، سواء كان بين الأفراد (نيتشه) أو اضمحلال الديمقراطيات اللييرالية العدمية في مواجهة قومية أكثر انسجاما روحيا وموحدة سياسيا (هايدجر وشمت). لا يمكن تحقيق هذا إلا من خلال القضاء على الأعداء المنشقين في الداخل والخارج، إلى جانب تبعية روحية موحدة لــ”الرسالة الروحية” التي وضعها المفكرون الرجعيون.
لقد رأينا العواقب المروعة لهذا المشروع على مدى القرن العشرين، التي كادت أن تدفن سمعة نيتشه، وهايدجر وشمت بموتهم. لكن زهرة الثالوث دائمة الخضرة ستنبت لأنها ستكون دائما جاذبة لأولئك الذين يرون أن الدافع لمزيد من الديمقراطية يمثل خطرا يجب مواجهته وهزيمته. التعامل مع أفكارهم وجاذبيتهم يعتبر أمرا هاما لمواجهة جهودهم – ودفع المشروع الإنساني لتأمين المساواة والحرية للجميع.
- مات ماكمانوس أستاذ السياسة زائر في كلية ويلتمان، وهو مؤلف كتاب صعود المحافظين وأساطير ما بعد الحداثة ومؤلف مشارك ضمن كتاب: الفوضى: نقد يساري لجوردن بيترسن.
[1] -في العلوم السياسية، يمكن تعريف الرجعية (Reactionary) أو الرجعي بأنه شخص أو كيان يحمل وجهات نظر سياسية تحبذ العودة إلى حالة سياسية سابقة للمجتمع يعتقد أنها تتمتع بخصائص غائبة عن الوضع الراهن المعاصر للمجتمع. تصف كلمة رجعية وجهات النظر والسياسات الرامية إلى استعادة الوضع الراهن في الماضي. -الإشراف.