- عبدالكريم البدران
من أبرز من رأيته في آرائه الفقهية منحازاً للمصلحة وتحقيقها في مسائل العادات والمعاملات، هو الإمام ابن تيمية -رحمه الله-.
فهو في الإطار المنهجي، من أهم العلماء الذين التفتوا للتأسيس بشكل علمي محكم، للمصلحة في التشريع، ومراعاتها، وتأصيل ذلك على ضوء مقاصد الشريعة العامة، وقواعدها الكلية، وتفعيل ذلك عمليا في اختياراته الفقية.
ولذلك لا تجد لديه ذكراً لما شاع عند فئة من الفقهاء المتأخرين، من تكثيف التعليل لبعض الاجتهادات والآراء التي يختارونها بالقاعدة الفقهية التي تقول: “درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.”
بل إنه يدعو لعملية موازنة بين كفتي المصلحة، والمفسدة، وأيهما ترجحت كفته كان الحكم موافقا له.
فإذا كان عمل من الأعمال ينطوي على مفسدة ومصلحة، فإن النظر يكون في أيهما أرجح؛ فإن ترجحت كفة المصلحة كان العمل مشروعًا، وإن ترجّحت كفة المفسدة كان العمل منهيًّا عنه.
وفي تقرير ذلك يقول -رحمه الله -:
“القاعدة العامة فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت؛ فإنه يجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد وتعارضت المصالح والمفاسد. فإن الأمر والنهي وإن كان متضمناً لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فينظر في المعارض له فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأوراً به، بل يكون محرماً إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته؛ فإذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكر بحيث لا يفرقون بينهما، بل إما أن يفعلوهما جميعاً، أو يتركوهما جميعاً، لم يجز أن يؤمروا بمعروف، ولا أن ينهوا عن منكر، بل ينظر فإن كان المعروف أكثر أمر به وإن استلزم ما دونه من المنكر، ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه، وإن كان المنكر أغلب نهى عنه، وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف..”[1]
وهو في رؤيته للمصلحة قد تفوق حتى على من يُظن أنه بالغ في تقديم المصلحة -كالعلامة الطوفي- الذي قرر تقديم المصلحة على النص إذا عارضته، في شرحه المشهور لحديث (( لاضرر ولا ضرار )) حين قال: “فالمصلحة وباقي أدلة الشرع إما أن يتّفقا أو يختلفا، فإن اتفقا فبها ونعمت .. وإن اختلفا فإن أمكن الجمع بينهما بوجه ما جمع، مثل أن يحمل بعض الأدلة على بعض الأحكام أو الأحوال دون بعض، على وجه لا يُخلّ بالمصلحة، ولا يُفضي إلى التلاعب بالأدلة أو بعضها، فإن تعذّر الجمع بينهما قُدّمت المصلحة على غيرها “[2]
ففي هذا التقعيد الذي أسّس له الطوفي استبطان سابق لمقدمة تفترض إمكان التعارض بين المصلحة وبين الشرع، وهذا المنزلق هو الذي نرى التقعيد العلمي لدى ابن ابن تيمية في منهجه قد تفاداه، وسعى معه لتجاوز التفكير الذي يخلق مناكفة بين النص والمصلحة، ثم يبحث في أيهما يقدم، إلى فهم وقراءة النص فهماً ينسجم ومقتضيات المصلحة، بحيث لايقتصر في الفهم على ظاهر تلك النصوص، بل يفهمها فهما يتضلّع بمقاصد الشريعة وأسرارها، والتي من أهمها تحقيق مصالح المكلفين في الدنيا خاصة في مسائل العادات والمعاملات.
ودونك أنموذجاً لذلك لدى ابن تيمية في تفسيره للنصوص التي وردت في النهي عن بيع الغرر ، وكيف أنه أعاد قراءتها قراءةً لا تجعل هنالك إمكانية أصلاً لوجود تعارض بين العمل بالنص من جهة، وبين العمل بالمصلحة من جهة مقابلة، وكأن لكل منهما خطّاً مغايراً للآخر، بل كل منهما يدل على الآخر ويتضمنه، فيسعى في فهم النص على ضوء تحقيق مصالح المكلفين التي اعتبر الشارع جنسها في تصرفاته ، وذلك في ما سطره في كتابه البديع الموسوم بـ (القواعد النورانية) فيقول:-
“ومفسدة الغرر أقلّ من الربا، فلذلك رُخّص فيما تدعو إليه الحاجة منه؛ فإن تحريمه أشدّ ضرراً من كونه غرراً، مثل بيع العقار جملةً، وإن لم يُعلم دواخل الحيطان والأساس ..”[3]
ويجعل في موازنة فقهية بين المذاهب الفقهية الأربعة أن مذهب الإمام مالك -رحمه الله- أجودها أصولاً لأجل مراعاته ذلك، فيقول بعده: “إذا تبين ذلك فأصول مالك في البيوع أجود من أصول غيره.”[4]
ثم يمضي بعد ذلك إلى بيان المفسدة التي لأجلها نهي عن بيع الغرر فيقول: “وإذا كانت مفسدة بيع الغرر هي كونه مظنة العداوة والبغضاء، وأكل الأموال بالباطل، فمعلومٌ أن هذه المفسدة إذا عارضتها المصلحة الراجحة، قُدِّمت عليها .. والشريعة جميعها مبنية على أن المفسدة المقتضية للتحريم إذا عارضها حاجة راجحة أبيح المحرم، فكيف إذا كانت المفسدة منتفية ؟! “[5]
ففي هذا الكلام يريد أن يؤسّس لقاعدة كبرى في التأويل، وما هنا وهي ( مسألة الغرر ) يمثل أحد تطبيقاتها، في كون نصوص النهي عن بيع الغرر غايتها قطع السبيل أمام ما من شأنه أن يبث البغضاء والعداوة، والمشاحنة بين الناس بسبب هذه التعاملات؛ وعليه فمتى انتفى هذا الأمر لوجود معارضٍ من المصلحة الراجحة، فليس داخلاً في نصوص النهي عن بيع الغرر، وعليه فيقدم الفقيه مراعاة جانب المصلحة على مفسدة الغرر؛ لرجحان كفته عليها في تلك المسألة، التي كانت مصلحتها راجحةً على مفسدة الغرر الحاصلة بها
وهذا التأصيل ما أحوج المنتصبين اليوم لدراسة أحكام الشريعة في أبواب العادات والمعاملات إلى استحضاره؛ حتى يكون بناء تلك الأحكام منسجما مع مراد الشارع الحكيم، وروح الشريعة الإسلامية، بعيداً عن انتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين والله المستعان.
اقرأ ايضًا: براءة الإمام ابن تيمية من الغلو
[1] (ابن تيمية – مجموع الفتاوى ٢٨ /١٢٩-١٣٠)
[2]( الطوفي – التعيين في شرح الأربعين ٢٧٧) .
[3] ( ابن تيمية – القواعد النورانية ١٨٠ ).
[4] المصدر السابق..
[5] ( ابن تيمية – القواعد النورانية ١٩٨-١٩٩)