الدينالعلمعام

فقه النفس (١)

أ.د عبدالله بن حمد السكاكر

المقدمة

‏الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وتُقضى الحاجات، والصلاة والسلام على النبي الأمي، ‏وعلى آله وأصحابه ذوي الفضل والمقامات، أما بعد:

فهذه مقالات اعتصرت فيها خبرتي في تدريس الفقه، واسترجعت بها ما حضرني في وقته من نصائح لطلاب الفقه خاصة، وطلاب العلم عامة، تختصر لهم الجهد، وتنير لهم سكة الطلب، وإنه لجميل بكل صاحب تخصص اجتمعت له من خلال الممارسة خبرة وخلاصات أن يدونها لطلابه وطلاب هذا التخصص، وجميل بطلاب كل تخصص أن يستفيدو من خبرة من سبقهم من أهل النجاح والتميز في تخصصهم، فكم أمضينا وأمضى غيرنا من أهل كل تخصص من السنوات حتى وصلنا إلى الممارسات الناجحة، والقناعات الراسخة فيما يختصر الجهد والوقت، ويكون أنجع وأنفع في تحصيل العلم وبذله، ورُب نصيحة يبلغ بها طالب العلم مبلغا لايطري على بال ناصحه، ويبلغ بها باذلها مالا يطري على باله من الخير والأجر، اللهم اجعل هذه الكلمات خالصة لوجهك، نافعة لمن قرأها أو نقلها أو نُقلت له من عبادك، اللهم بارك أجرها ونفعها، واجعلها ذخرًا صالحًا، وأجرًا جاريًا لمن كتبها أو نشرها، وصل اللهم وسلم وبارك على معلم الخير، محمد بن عبدالله وعلى آله وصحبه.

(1) الهدف والوصول إليه!

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحابته ومن اهتدى بهداه، أما بعد:

يعتقد كثير من الطلاب أن الهدف من دراسة الفقه في المدارس، والكليات النظامية، وفي المساجد، وحلق الفقه غير النظامية هو معرفة حكم الله سبحانه وتعالى في المسائل الفقهية التي تُدرَس، ولهذا تجد كثيرًا من الطلاب يضيقون ذرعًا من إيراد الخلافات الفقهية، وما يصاحب ذلك من سوق الأدلة، والمناقشات.. الخ حيث يعتبرون ذلك سببًا في نسيان الراجح من الخلاف، لكثرة التفصيلات، والأقوال، والأدلة، والمناقشات، وإذا لم يرجح الأستاذ بين الأقوال شق ذلك عليهم جدًّا، لاعتقادهم أن كل ملف يُفتَح ولا يُغلَق بترجيح لا يُكسِب علمًا .

وهذا – بلا شك- من الأخطاء الاستراتيجية في بناء الشخصية الفقهية، فإنه متى كان الهدف الحصول على الحكم الشرعي في المسألة فإن التركيز سيكون على تحصيل هذا الهدف، وتخليصه مما يشوبه، وسيضيق الطالب ذرعًا بما يشوش عليه هذا الهدف من خلاف، أو استدلال مخالف، وربما ود لو اكتفى الشيخ بما يراه راجحًا، حتى لا تشوش المعلومة، أو تنسى بكثرة ما يلابسها من أقوال، وأدلة لا فائدة من حفظها.

إن الاكتفاء بهذا الهدف لا يُخرج فقيها، ولا يصقل مَلَكة، وإنما يخرج حامل فقه وشتان بين فقيه وحامل فقه، قال: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ». [1]

إن كثيرًا من عوام المسلمين يحفظون عشرات وربما مئات المسائل مما يحتاجون إليه في عباداتهم، ومعاملاتهم، وأحوالهم الشخصية، وتقاضيهم وهم عوام لم يشموا رائحة الفقه، ولم يكونوا بتلك المسائل فقهاء، وعلى كل من كان هدفه من دراسة الفقه أن يحفظ حكم الله في تلك المسائل بعيدًا عن معرفة الكيفية التي توصل بها الفقهاء إلى تلك الأحكام أن يدرك أن تلك الدراسة لن تؤهله ليكون فقيهًا يحسن الاستنباط، والاستدلال، والتخريج، والقياس، والإيراد، والرد، والموازنة، والترجيح، وإنما هو نسخة زائدة من ترجيحات شيخه، ولو حفظ متنا من متون الفقه لكان أنفع له لأن إمام ذلك المتن أجلُّ من شيخه .

إن معرفة الطريقة والمهارة التي تَوصّل بها الفقهاء إلى أحكام الله في تلك المسائل هي أعظم أهداف دراسة الفقه، وهي التي تفتح عين طالب علم الفقه على سر صنعة الفقه، والمهارة التي احترفها الفقهاء، حتى إن الفقيه ربما سُئل عن المسألة لم يسمع بها من قبل فيمررها عقله على القواعد، والأصول، وعلى أدلة الحظر -إن كان الأصل فيها الإباحة- وعلى أدلة الإباحة -إن كان الأصل فيها المنع- ويُخرّجها على ما يعلمه من أصول الأئمة وأقوالهم، وربما قاس إن كان للقياس فيها مدخل، كل ذلك في جزء من الدقيقة ثم يفتي فيها بقول مسدد لو أعاد التأمل فيه لم يزد عليه، وما ذلك إلا لقريحته الفقهية المصقولة بمعرفة خلاف الأئمة، ومناهجهم في الاستدلال، والاستنباط، والتخريج، والقياس، والمناقشة، والجواب، والموازنة، والترجيح .

إن حضور هذا الهدف في ذهن طالب علم الفقه وهو يدرسه سيجعله أكثر استشعارا للغة الفقهاء، وعباراتهم، ومالها من دلالات لا يفهمها غيرهم، كما سيساعده على خفايا الصنعة الفقهية، ومهارات أصحابها، وسيجعله أكثر إدراكا لتطبيقات الفقهاء قواعد أصول الفقه، ومتى ركز الطالب في مهارات أصحاب الصنعة، وحاول محاكاتهم مرة بعد مرة فسيحصل له من المهارة بالصنعة الفقهية، والدربة على طرائق الفقهاء ما يفوق ما نسيه من ترجيحات شيخه، وربما لو لم ينس هذه الترجيحات لاستغنى عنها بترجيحاته هو التي وصل إليها بمهارته وملكته الفقهية التي صقلها .

أخي فقيه المستقبل ليكن أهم أهدافك وأنت تدرس الفقه: «كيف توصّلَ الفقيهُ لهذا الحكم؟» ولا تهتم للحكم نفسه فسيحصل لك حتمًا بالتبع. 

«من تردد بأرض عرفها»

هذا مثل عامي ظاهر المعنى، بحيث إن كل من أكثر المرور بأرض، والتردد فيها عرف مسالكها، ودروبها، وشعابها، وسهولها، ونجادها، وخَبَر مداخلها، ومخارجها، يُصدقه ما تراه من معرفة سائقي سيارات الأجرة بالمدن التي يعملون فيها، حتى إنهم ليعرفونها -وهم وافدون عليها- أكثر من أهلها الأصليين، وهذا المثل هو خلاصة جوابي لكثير من طلاب العلم المبتدئين حين يسألون كيف نكون فقهاء؟

إن الهدف الواحد قد يوصل إليه من أكثر من طريق، والفقه من الأهداف التي يمكن الوصول إليها من أكثر من طريق، فقد تجد من تفقه على طريقة الشناقطة بحفظ المتون، والمنظومات الفقهية، وقراءة الشروح على الشيوخ، وقد تجد من تفقه عن طريق التفاعل الإيجابي مع الدراسة النظامية في المعاهد، والكليات الشرعية، وربما وجد من تفقه عن طريق الدورات المتخصصة في الفقه، مع حضور حلق الفقه في المساجد، وربما تجد من تفقه بنفسه عن طريق قراءة كتب الفقه، وسماع الدروس الصوتية خاصة مع ثورة التقنية الحديثة، وبالجملة فالفقه ككثير من الفنون مَن جعله هدفاً له، وأكثر من التردد بأرضه بقراءة كتبه مختصرها، ومتوسطها، ومطولها، وتأمل أجوبة الفقهاء، ومناقشاتهم، وردودهم، وقرأ في آلة الفقه كأصول الفقه، والقواعد الأصولية، والفقهية، وتابع جديد الفقه من النوازل، والمستجدات، وتأمل كيف عالجها فقهاء العصر، مع مراعاة الاستفادة من نصائح المختصين فيما يبدأ به، وما ينتبه له، فإنه يوشك أن يبلغ هدفه، وإن فاته شيء يسير فإنه يمكن تكميله، واستدراكه . 

إن اعتقاد بعض طلاب العلم المبتدئين وربما بإيحاء من بعض أهل العلم أن الفقه له طريق واحدة من لم يسلكها لم يصل إنما هو من العوائق الوهمية التي ربما قطعت بعض الطلاب عن هذا الطريق، وقطعت أمله في التفقه.

لا شك أن بعض طرق التفقه أخصر من بعض، وبعضها أسهل من بعض، وأن بعضها ربما أنتج بعض الأخطاء اليسيرة لكنها كلها موصلة إذا كان الهدف واضحا، وأخلص له الطالب، وجمع له همّه، وهمّته، وكما قيل (من تردد بأرض عرفها).


(١) رواه الأئمة أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجه وقال الترمذي: وفي الباب عن عبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل وجبير بن مطعم وأبي الدرداء وأنس، قال أبو عيسى: حديث زيد بن ثابت حديث حسن ا.هـ وصححه الألباني والأرنؤوط رحمهم الله جميعًا .

اطلع على المقالة التالية : فقه النفس (2)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى