- تأليف : رضا زيدان
- تحرير : خلود بنت عبدالعزيز الحبيب
تبحث نظرية المعرفة ثلاثة جوانب متداخلة من “مشكلة” المعرفة الإنسانية، المصدر والكيفية والتسويغ، وهناك تيارات رئيسية تحاول الإجابة عن تلك المسائل، لكن ما يهمنا هنا هو المنظور الواقعي والمثالي أو اللاواقعي، فالواقعية تؤكد على أن ما نراه من موضوعات (مثل المنضدة والكتب والناس) موضوعات واقعية ذات وجود مستقل عن العقل، بينما تؤكد المثالية على أن الموضوعات إما معتمدة على العقل أو هي كيانات عقلية تعتمد على إدراكنا في وجودها. وسنتناول في هذا المقال موقف هايدجر من تلك الثنائية.
أ- فلسفة هايدجر:
من المعلوم أن هايدجر تدور فلسفته كلها حول الوجود أو الكينونة، ويتهم الفلسفات القديمة والحديثة بأنها اهتمت فقط بالموجودات دون الوجود نفسه، ومهمة الفيلسوف في نظره هي البحث عن معنى الوجود. ولأن هذه البداية غالبا ما تكون غير مبشرة لمعظم المهتمين بنظرية المعرفة أو بالفلسفة بشكل عام لما يُعرف عن هايدجر من تعقد لغته وأن القارئ قد يجاوز الصفحات تلو الأخرى دون الخروج بمبدأ محدد: ليضع القارئ في ذهنه أن الوجود هو لعبة الشطرنج بشكل عام، أي: السياق العام الذي يدركه الشخص (أو يتجلى له) بعد النظر لوقت ما إلى أشخاص يلعبون، بينما الموجودات فتتمثل في قطع الشطرنج، وحركاتها، وأوضاعها، وما إلى ذلك. فهذا التشبيه مسهل جدا كبداية لفهم فلسفة هايدجر بشكل عام.
لا شك أن ظاهرة الوجود تتجلى في الموجودات نفسها، لكن الوجود نفسه ليس جزءا من الموجودات المحسوسة، لكنه متضمن في الموجودات المحسوسة، “والنقطة صعبة الإدراك هنا هي قول هايدجر أن العالَم (السياق) الذي يمكننا انكشافه من اكتشاف الموجودات هو نفسه ليس شيئا أو مجموعة من الأشياء”[1]، فنحن لا نرى إلا قطع الشطرنج وعلاقاتها، لكن في نفس الوقت ينكشف لنا سياقا عاما يعطي لتلك القطع وعلاقاتها معنى (لاحظ أن الانكشاف شعور لا يقبل البرهان للتدليل عليه، وأنه متضمن في “كل ما يدركه المرء من الكائن”[2]).
ومن هنا يقوم تمييز أساسي بين ميدان الوجود [الأنطولوجي]، وميدان الموجود. فالأنطولوجي يرجع إلى ما يجعل الموجود موجودا، أي: يرجع إلى تركيبه الأساسي، أما ميدان الموجود “فيشمل الموجود كما هو معطى”[3]. إذا نظرنا للموجودات سنجد أن هناك أنماطا مختلفة للموجودات: وجود الشيء، وجود الأداة، وجود الإنسان، إلخ، فبأي نمط نبدأ البحث؟ وجواب هايدجر حاسم: إنه وجود الإنسان، وجودنا نحن، هو الذي ينبغي أن نبدأ به البحث. ولذا يقول هايدجر أن “ماهية الإنسان جوهرية بالنسبة إلى حقيقة الوجود”[4].
ب- الدازين:
يسمي هايدجر وجود الإنسان بالدازين (Dasein)، أي الوجود – هناك، أي الوجود في العالم، “وهذه العبارة لا تشتمل فقط على المعنى المكاني، بل وأيضا وخصوصا المعنى الأنطولوجي. وهذا الوجود الإنساني عام بين الناس جميعا، وإن بدأت تجربتي من وجودي أنا الخاص بي. ومهمة التحليل الأنطولوجي ستكون إذن الكشف عن الوجود الإنساني بعامة”[5] (علما بأن هايدجر يفرق بين “الوجود في العالم” و”الموجود داخل العالم”، فالدازين وجود في العالم، وذلك يعني لونا من العلو على العالم بفضل ظهور الدازين خارجا منه أو انبثاقا عنه، وإن كان الدازين مهددا باستمرار بأن ينزلق إلى مرتبة الموجود داخل العالم، وهو مستوى أدنى من مستوى الدازين[6]). إن ثمرة هذا التحليل الأنطولوجي هي الظفر بالتراكيب الجوهرية للإنسان التي تلزمه ككل، والخصائص الأساسية أو الأوصاف الأساسية هي:
1-أن الوجود الإنساني أو الدازين بحكم التعريف وبحكم الواقع خارج ذاته، ومن ثم يقول هايدجر “إن ماهية الدازين تقوم في وجودها خارج ذاتها”، وهذا الحضور في العالم أو الوجود هو أول ما يتجلى لنا حين نلتفت إلى الوجود الإنساني[7]. إن الدازين لا يمكن فصله عن العالَم المحيط؛ لأنه مرتبط به ارتباطا ضروريا، ولا عن العالَم الاجتماعي؛ لأن الآخرين “يصحبونني ويرافقونني”، وأنا أصطدم بهم، وعلي أن أتقاسم العالم معهم. ومتى وجد الإنسان عاش في نوع من الانفتاح يدخل في الغير ويتجلى له. ولهذا فإن وجود الآخرين هو بالنسبة إلى الإنسان أصيل، فإن في وجودي أنا أكون في الوقت نفسه مع الآخرين. فـ “الوجود مع” صفة جوهرية أساسية في كل دازين، وفهم الآخرين هو حال وجودية للوجود الذاتي[8]. بعبارة أخرى: فهم الدازين لوجوده الخاص إنما هو فهم الآخرين، كما أن شعوره الكامل بالذات وإدراكه لها مستمد من شعوره وإدراكه للآخرين[9]. حتى الدازين الذي يتجنب الاختلاط بالآخرين إنما يثبت أن الغير حاضر بوصفه ذلك الذي يتجنبه[10].
2-الحرية: فالدازين حر، وهذه الحرية هي تحديد يقوم به الدازين لتعيين ذاته، فأنا من أقرر طريقة وجودي بنفسي، وذلك باختياري لأحد أوجه الممكن المتاحة أمامي. وهكذا فإنني أختار نفسي في وجودي، وأنا مسؤول عن ذاتي. ونحن نكتشف الموجودات؛ “لأننا فقط نفهم الوجود، ومن ثم ننتمي إلى وضع تاريخي معين، أو (عالَم)، ترتيبه ذو معنى من الطرق الممكنة لوجودنا. وهايدجر لم يعني وقائع ممكنة (موضوعات محددة، وخصائص، وعلاقات قد تحدث، لكنها واقعيا لا تحدث)، بل احتمالات فعلية (توجُّه نحو طرق محددة لوجودنا، لكن ليست محددة تماما)”[11].
3-وحيث أن بحريتي اختيار ما يجري علي من التغيرات، فأنا إذن لست جوهرا ديكارتيا ثابتا، “ذلك أن وجود الإنسان يتجلى على أنه إمكان وجود، إنه ينبوع للإمكانات، واستعداد لتحقيقها”[12].
ج- نقد ثنائية الذات والموضوع:
وبناء على هذه الخصائص الثلاث يرى هايدجر أن الإشكالات الفلسفية المتعلقة بنظرية المعرفة مثل: وجود العالم الخارجي، والعقول الأخرى، وثنائية المثالية، والواقعية، وثنائية لاعقلانية، والتجريبية: “تقوم على تصور إشكالي لعلاقتنا بالعالَم، حيث تكون (الذات) منفصلة جذريا عن (الموضوعات)[13]. في باكر كتاب “الكينونة والزمان” يشتكي هايدجر من أن هذا التصور لا يتوافق مع علاقة الدازين بالعالم، ويرى هايدجر أن تصورنا للمعرفة إشكالي، فنحن نختلق السؤال التالي: “كيف تخرج هذه الذات العارفة من (دائرتها) الباطنية إلى دائرة (أخرى خارجية)؟، كيف يمكن للمعرفة على وجه العموم أن يكون لها موضوع، كيف ينبغي للموضوع ذاته أن يفكَّر فيه، حتى تعرفه الذات في النهاية؟”[14]. لكن في حقيقة الأمر التفسير ليس ضروريا ولا حاجة له أصلا؛ لأن الدازين موجود دائما بين الموجودات، هو بطبيعته منفتح على هذه الكائنات، فليس هناك حاجة أصلا للتفسير. بعبارة أخرى علاقة الذات والموضوع تفترض أن “الداخل” له حق فهم “الخارج”، بينما العلاقة الحقيقية للإنسان بالعالَم هي وجود في العالم دون وسيط، بل هي “أخذ محض”، فالإنسان قد منح وجوده في العالم فحسب، وليس هو الذي ينتقل من الداخل للخارج، بل مجرد كونه دازين يعني اكتسابه تصورا معينا للعالَم دون سعي. يقول هايدجر: إن في الإدراك الإنساني “لا يذهب الدازين لأول مرة إلى خارج دائرته الباطنية حيث يكون مودعا كما في كيس منذ البداية، بل هو طبقا لنمط كينونه الابتدائي يوجد دوما (في الخارج) لدى كائن ملاق له من العالم المكتشف بعد في كل مرة. وليست الإقامة المعينة لدى الكائن الذي ينبغي أن يُعرَف نحوا من التخلي عن الدائرة الباطنة، بل إن الدازين، حتى ضمن هذه (الكينونة في الخارج) لدى الموضوع، هو بالمعنى المفهوم على وجه الصحة (في الداخل)، بمعنى هو ذاته يكون بوصفه الكينونة في العالم التي تعرِف. كذلك، ليس التلقي للمعروف نحوا من عودة الخروج الظاهر بالغنيمة المظفور بها إلى (قوقعة) الوعي، بل إنه حتى ضمن التلقي والاحتفاظ والصيانة إنما يبقى الدازين العارف من حيث هو دازين في الخارج”[15]. فالإنسان في نظر هايدجر هو الموجود الوحيد الذي وجوده هو في صميمه تواجد أو تخارج أو تعرض لنور الوجود، بعكس الموجودات الأخرى ذات الطبيعة الكثيفة والجامدة، فالإنسان ليس ذاتية مغلقة على نفسها، بل إنه انفتاح وتواجد، إن الإنسان في نظر هايدجر ليس موجودا بين الموجودات أو في الطبيعة، وإنما هو في وسط الموجودات وعلاقته بالموجودات علاقة انفتاح[16]. ولذلك يقول هايدجر: “ما من نزعة موضوعية إلا وهي للأمر نفسه نزعة ذاتية. ما لا يعني أن الكائن يتحول إلى مجرد نقطة لذات معزولة مفكرة؛ أي إلى شيء اعتباطي عرضي، وإنما يقصد أن كل ما نلقاه إنما يقف أمامنا بما هو (الموضوع) الذي تقيمه (الذات)؛ أي تشهد عليه وتقومه”[17].
د- نتيجة لما سبق:
فإن هايدجر يرفض سؤال المثالية والواقعية في حقيقة الأمر، لأنه يقوم على افتراض غير صحيح، وهو إمكان فصل الإنسان عن العالَم، ثم محاولة تأسيس المعرفة انطلاقا إما من العقل (المثالية) أو من الطبيعة (الواقعية). إن المثالي والواقعي يتجاهلان “التركيب الأساسي للدازين”[18]، أي وجوده الدائم في العالم. ومحاولة الواقعي لتفسير الواقع عن طريق الواقع نفسه (أي بالاستناد إلى عملية إدراك سلبية تقوم على سلاسل سببية) قاصرة؛ لأنها تتجاهل الطبيعة التفاعلية والإيجابية للدازين، وأنه يخلق ذاته باستمرار بما يحققه من إمكانات، وبكونه مشروع يزداد تحققا في كل لحظة[19]. ولا تعني كلمة الإمكانات هنا الإمكانات العقلية، بل صور حياة يريد من بينها الدازين صورته، فصورة حياة الإنسان “البدائي” تختلف في كثير من الجوانب عن صورة حياة الإنسان المعاصر، سواء على المستوى المفاهيمي أو على مستوى التعامل مع أحداث الحياة. إن إدخال هايدجر لبُعد الإرادة جعل الترابط بين الإنسان والعالَم ترابطا أصيلا، ونفى الجوهرية الثابتة التي نادى بها الكوجيتو الديكارتي وكثير من الفلاسفة الذين أتوا من بعده.
المراجع :
[1] Dreyfus, H. and Wrathall, M. (eds), The Blackwell Companion to Heidegger (oxford: Blackwell, 2005), p. 175.
[2] مارتن هايدجر، الكينونة والزمان، دار الكتاب الجديد المتحدة، ترجمة وتقديم وتعليق: فتحي المسكيني، ص51
[3] عبد الرحمن بدوي، موسوعة الفلسفة، مادة هايدجر.
[4] المرجع السابق.
[5] المرجع السابق.
[6] صفاء عبد السلام جعفر، الوجود الحقيقي عند مارتن هايدجر، منشأة المعارف، ص116
[7] بدوي، مرجع سابق.
[8] المرجع السابق
[9] صفاء عبد السلام، مرجع سابق، ص187
[10] المرجع السابق، ص191
[11] The Blackwell Companion to Heidegger, p. 175
[12] بدوي، مرجع سابق.
[13] The Blackwell Companion to Heidegger, p. 251
[14] هايدجر، الكنونة والزمان، مرجع سابق، ص141
[15] الكينونة والزمان، مرجع سابق، ص144
[16] حياة خلفاوي، مفهوم الحقيقة عند مارتن هايدجر، رسالة ماجستير جامعة منتوري-قسنطينة، ص56
[17] محمد الشيخ، نقد الحداثة في فكر هايدجر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ص470
[18] The Blackwell Companion to Heidegger, p. 257
[19] محمد مهران، مدخل إلى دراسة الفلسفة المعاصرة، دار الثقافة للنشر والتوزيع، ص100
مقالة جميلة، حمستني للقراءة أكثر عن هايدجر.
مع الشكر للكاتب.