- تأليف : جون هورجان – John Horgan
- ترجمة : مصطفى هندي
- تحرير : خلود بنت عبدالعزيز الحبيب
جون هورجان – الرابع والعشرين أكتوبر/تشرين الأول عام 2016
فيرابيند الذي يدافع عن علم التنجيم والخلقوية، ينكر أنه عدوٌّ للعلم.
هاجم بول فيرابيند العلم، ليس لأنه يرى أنه غير جدير بالثقة أكثر من التنجيم والدين، بل على العكس تمامًا، إنه يهاجم العلم؛ لأنه أدرك تفوق العلم الكبير على أنماط المعرفة الأخرى، وكان قلقاً من تحول العلم إلى سلطة استبدادية (نقلًا عن زوجته جراتسيا بوريني بويكيميديا).
إذا ذُكرت الأشياء الغريبة والشاذة = ذُكر فيرابيند، ربما هذا هو السبب في تسميته مؤخرًا ب(الفيلسوف المشاكس). انظر على سبيل المثال هذه المجموعة المكونة من أربعة أجزاء، التي قدمها الفيلسوف ماسيمو بيجليوتشي حول دفاع فيرابيند عن علم التنجيم.
لقد قابلت فيرابيند عام 1992 وجرى بيننا حوار، و تكلمت عنه كما تكلمت عن كارل بوبر، وتوماس كون في كتابي (نهاية العلم) الصادر عام 1996.
أود حمل الأمور على أفضل محاملها(انظر علي سبيل المثال”نعم، ترامب مخيف، لكن لا تفقد ايمانك في إحرازه تقدمًا”)، لكن انتقادات فيرابيند اللاذعة لهذا “التقدم”، تبدو الآن مناسبة أكثر من أي وقت مضي.
في ما يلي نسخة معدلة من كتاباتي، عن أحد المفكرين الأكثر إثارة للجدل من بين كل من قابلتهم.
في عام 1987 نُشر مقال في مجلة Nature بعنوان “عندما يخطئ العلم”، شعر خبيران فيزيائيان بالقلق من كراهية الجمهور المتزايدة نحو العلم، لقد ألقوا تبعة هذه الكراهية على هذا النوع من الفلاسفة، الذين ينكرون فضل العلم في كشف الحقائق المطلقة، و الموضوعية.
لقد أظهرت المقالة صورًا لثلاثة من “خونة الحقيقة” هم : كارل بوبر، وتوماس كون، وبول فيرابيند. بدا فيرابيند-الذي يدعوه الفيزيائيون”عدو العلم اللدود”- أهم هؤلاء المخربين، يبدو عند ابتسامه للكاميرا أنه ينوي شرًا عظيمًا.
جميع الفلاسفة الشكيين معرضون للتناقض الذاتي، لقد وقع كلٌ من بوبر وكون في هذا الفخ في حواري معهما. بوبر، الذي ثار ضد الوثوق في العلم والعلوم السياسية،أصر على أنه لم يكن دوغمائيًا في تصريحاته، بينما ارتبك كون وهو يحاول أن يفسر بدقة ما الذي كان يعنيه عندما تحدث عن استحالة الوصول إلى الحقيقة الموضوعية.
الطريقة الوحيدة لصاحب المذهب الشكي كي يتجنب هذا الفخ، هي اللجوء إلى المغالطات والسخرية والخطابة الزائدة حتى يُكتشف أمره، وكانت تلك استراتيجية فيرابيند.
في كتابه الأول والأكثر شهرة (ضد المنهج) يقرر فيرابيند أن الفلسفة لا تستطيع أن تثبت الأساس العقلاني للعلم؛ لأنه لا توجد أسباب وأسس مطروحة للتفسير. لقد سخر من تأكيد بوبر علي إمكانية التزييف بأنها:” ليست أكثر من نفحة ضئيلة من هواء الساخن في كوب من الشاي”[أي أنها لا تسمن و لا تغني من جوع]، وقرر أن نموذج كون لبنية الثورات العلمية يصلح كنموذج للجريمة المنظمة. لقد لخص فيرابيند هرطقته في عبارة” كل شئ مباح“.
ساهم مَيْل فيرابيند إلى الخداع والتزييف في تقليل تأثير آرائه الشنيعة، لقد شبَّه العلم بالفودو والسحر، والتنجيم، وأيّد الأصوليين الدينيين الذين أرادوا تدريس الخلقوية في المدارس الحكومية. في مدونة ” Who’s Who” كتب : ” لقد شكلت الفوضى حياتي، لم يكن لدي أهداف ومبادئ، إن عملي الفكري لا يمثل سوى جزءاً ضئيلاً من حياتي، إن الحب والوعي الذاتي أكثر أهمية بكثير، إن المثقفين البارزين بحماسهم للموضوعية يقتلون هذه العناصر الشخصية، إنهم مجرمون، وليسوا محرري البشرية”.
في نهاية كتابه (وداعاً للعقل) عالج فيرابيند قضية ” أثارت غضب العديد من القراء وخيبت أمل الكثير من الأصدقاء ألا وهي : رفضي إدانة الفاشية المتطرفة واقتراحي بأنه يجب السماح لها بالنمو”. اقترح فيرابيند أن إدانة الفاشية يعني-خطأً-أنه تم القضاء عليها:” أقول أن أوشفيتز هو تمثيل متطرف لسلوك ما زال يزدهر في مجتمعنا، إنه يتجسد في معاملة الأقليات في الديمقراطيات الصناعية؛ وفي التعليم ، التعليم الذي يغرس الإنسانوية، والتي تسعى دائمًا إلى تحويل الشباب الرائعين إلي نسخ باهتة ومتكبرة من معلميهم؛ ويتجلى ذلك في التهديد النووي، والزيادة المستمرة في عدد الأسلحة الفتاكة وقوتها، واستعداد بعض مدعي الوطنية بدءَ حربٍ يصبح الهولوكوست أمرًا تافهًا مقارنة بها، يتجلى هذا المذهب في قتل الطبيعة والثقافات “البدائية” دون أدنى اعتبار لأولئك الذين سيفقدون معنى حياتهم جراء تدمير هذه الثقافات، وفي غرور مفكرينا الهائل، و في اعتقادهم أنهم يعرفون بدقة ما الذي تحتاجه البشرية وجهودهم المضنية لإعادة تشكيل الناس ليكونوا على شاكلتهم المشينة؛ يتجلى هذا الطغيان في جنون العظمة الطفولي لبعض أطبائنا الذين يبتزون مرضاهم بالخوف، وينهبونهم بالفواتير الباهظة؛ وفي تبلُّد إحساس العديد من الباحثين عن ما يُسمى بالحقيقة ويعذبون الحيوانات بشكل ممنهج، ويدرسون متاعبهم ثم يحصدون الجوائز لقسوتهم هذه. بقدر ما أشعر بالقلق من وجود هؤلاء فلا فرق بين جلادين أوشفيتز وبين هؤلاء “صانعي الخير للبشرية”.
في أوائل التسعينيات، حرصت على إجراء مقابلة مع فيرابيند، تواصلت مع قسم الفلسفة في جامعة كاليفورنيا-بيركلي، والذي تقاعد منه مؤخرًا. لم يكن زملاؤه السابقون يعرفون مكانه ، وتنبأوا بأن جهودي للعثور عليه ستكون بلا جدوى، كان من عادته قبول دعوات حضور المؤتمرات ولا يحضر، دعا زملاءه لزيارته في منزله ذات مرة، لكن عندما وصلوا لم يفتح الباب.
عند مطالعة Isis – وهي صحيفة متخصصة في تاريخ العلوم – وقفت على مراجعة لكتاب قدمها فيرابيند والتي أظهرت موهبته في السخرية وإلقاء النكات. قال فيرابيند تعليقًا على نقد الكتاب للدين:”قد لا تكون الصلاة فعالة ومؤثرة مقارنة بميكانيكا الكواكب، لكنها بالتأكيد لها ارتباطها الخاص ببعض جزئيات علم الاقتصاد”. اتصلت بمحرر المجلة لكي أسأله كيف أستطيع التواصل مع فيرابيند، وأعطاني عنواناً بالقرب من زيوريخ -سويسرا .
لقد أرسلت إلى فيرابيند بالبريد طلب مقابلة مزيف، لا يسعني إلا أن أُعرب عن بالغ سروري بموافقته على المقابلة في مذكرة مكتوبة بخط اليد. لقد أرفق صورة لنفسه أمام مغسلة مليئة بالأطباق وكتب “إذا كنا سنجتمع معاً ونتبادل الحديث سوياً، أود أن تستخدم الصورة المرفقة التي تظهرني أثناء نشاطي المفضل: غسل الأطباق لزوجتي”.
كتب فيرابيند مرة أخرى ليقول أنه كان سيأتي إلى مدينة نيويورك مع زوجته-جراتسيا بوريني، عالمة فيزياء-وسيكون سعيدًا بلقائي، قال أنه ينبغي علي مقابلة بوريني لأن عملها مسلٍ أكثر من عمله.
في ليلة باردة قبل أيام قليلة من الهالوين، التقيت فيرابيند في شقة فاخرة في مانهاتن صاحبتها طالبة سابقة قادتها حكمتها لترك الفلسفة و الاتجاه إلى العقارات. قادتني إلى المطبخ،حيث جلس فيرابيند وبوريني على طاولة يحتسيان الخمر، قام مسرعًا من على الكرسي ووقف و انحنى لي على سبيل التحية، عندها فقط تذكرت أن فيرابيند قد أُصيب في الظهر خلال الحرب العالمية الثانية.
كانت ملامحه حادة، وكان أقرب ما يكون مهووسًا بالخوارق الشيطانية، لقد صاح وسخر وتملق وهمس معتمداً على مكائده، بينما يلوح بيديه كقائد فرقة موسيقية. أثار شعوره بالنقص غيرته، لقد قال عن نفسه أنه كسول وثرثار، وعندما سألته عن رأيه في موضوع معين،فزع وصاح قائلاً ” ليس لدي رأي! ، إذا كان لديك رأي، فهذا يعني أن شيئًا ما ثابت كهذا البرغي” ثم قام بلف البرغي المخفي في المنضدة ” كان لدي آراء أدافع عنها بشراسة، وتبين لي بعد ذلك كم هي سخيفة، فتخليت عنها !”
كانت بوريني تشاهد هذا الأداء بابتسامة عريضة، وكان أسلوبها هادئاً بقدر اهتياج أُسلوب فيرابيند. لقد التحَقَت بنفس القسم الذي فيه فيرابيند في بيركلي عام 1983، وتزوجا بعد ست سنوات، دخلت بوريني في المحادثة بين الفينة والأخرى، على سبيل المثال بعدما سألت لماذا أثار فيرابيند غضب العلماء.
قال:” لا أملك أدنى فكرة”، يا للبراءة! قالت بوريني أنها غضبت عندما شرح فيزيائي آخر آراء فيرابيند، وأوضحت “كأن شخصًا ما كان يأخذ مني مفاتيح الكون” عندما قرأَت كتبه، أدركَت أن وجهة نظره كانت أكثر دقة بكثير مما ادعى منتقدوه” قالت لي بوريني “هذا هو ما يجب أن تكتب عنه، إنه سوء فهم كبير”
قال فيرابيند “انسوا الأمر، إنه ليس متحدثي الرسمي للصحافة”.
وُلد فيرابيند ونشأ في فيينا، وأحب الفنون والعلوم، في سن المراهقة تصور نفسه مُغني أوبرا وعالم فلك وقال “كنت أمضي فترة ما بعد الظهيرة في الغناء ومتابعة أمسيات المسرح، ثم في وقت متأخر من الليل أتأمل النجوم”.
احتلت ألمانيا النمسا في عام 1938، وفي عام 1942، التحق فيرابيند-البالغ من العمر 18 عامًا-بمدرسة الضباط، وانتهى به المطاف بكونه مسؤولًا عن 3000 رجل على الجبهة الروسية. أثناء قتاله (أو بالأحرى فراره) من الروس في عام 1945 أُصيب في أسفل الظهر. يتذكر فييرابيند “لم أستطع النهوض، وما زلت أتذكر هذه الفكرة:”ياللحسرة، سأكون على كرسي متحرك يُجر ذهبًا وإيابًا بين صفوف من الكتب “.
استعاد فيرابيند القدرة على المشي بمساعدة العصا، ثم درس في جامعة فيينا بعد الحرب، وتردد بين قسمي الفيزياء والتاريخ واستقر في النهاية على الفلسفة. إن موهبته في تقديم وتنمية المواقف الساخرة والسخيفة اعتمادًا على ذكائه، عززت شكوكه بأن الكلام الخطابي يتفوق على الحقيقة. زعم فيرابيند أن : “الحقيقة نفسها مصطلح خطابي” و ردد وهو يحك طرف ذقنه بأنامله (أنا أبحث عن الحقيقة) يا لك من فتى، يا لك من شخص عظيم.
درس فيرابيند على يد بوبر في لندن في أوائل الخمسينيات. ثم بعد التدريس في جامعة بريستول في عام 1959 انتقل إلى بيركلي، حيث أصبح صديقًا لتوماس كون .
تماماً كما فعل كون عندما قابلته، نفى فيرابيند أنه عدو للعلم، وأصر أنه لا توجد طريقة علمية تدعم العلم، وأن طريقة العلوم الوحيدة هي”الانتهازية”.” أنت بحاجة إلى صندوق به أنواع مختلفة من الأدوات، وليس فقط مطرقة وبراغي” هذا ما قصده بعباراته المشينة إلى حد بعيد” كل شئ مباح” (وليس كما يعتقد البعض أن نظرية علمية معينة ليست أولى بالاتباع من النظريات الأخرى). إن حصر العلم في منهجية معينة – مثل نموذج إمكانية التزييف لبوبر أو “العلم المعياري/العادي” لكون – سيقضي عليه.
من ناحية أخري، اعترض فيرابيند على الادعاء بأن العلم متفوق على أنماط المعرفة الأخرى، لقد ندد بسياسية الدول الغربية في فرض منتجات العلم-سواء كانت نظرية التطور أو وحدات الطاقة النووية-على الناس، وصاح قائلًا “هناك فصل بين الدولة والكنيسة، لكن لا يوجد فصل بين الدولة والعلم !”
قال فييرابند أن العلم يقدم سرديات رائعة عن نشأة الكون والعناصر الأولية والتطور وعن كيفية ظهور الحياة وكل هذه الأشياء، لكنّ العامّة هم من يدفع ضرائب هذه الأبحاث، يجب أن يكونوا أحرارًا في رفض النظريات والتكنولوجيا.
وأضاف “بالطبع أنا متطرف، لكن ليس إلى الحد الذي يتهمني الناس به، أي رفض العلم، بل رفض فكرة (العلم أولاً)، هذا صحيح تماماً، يجب أن تتغير مكانة العلم. بالرغم من كل شيء، لطالما اختلف العلماء فيما بينهم عندما يقول أحد العلماء: “على الجميع أن يتبعوا هذا الطريق” فلا ينبغي على لناس أن يعتبروا ذلك أمراً غير قابل للنقاش”.
سألته إذا لم يكن عدوًا للعلم ،فماذا كان يقصد ببيانه في مدونة ” Who’s Who” أن المفكرين مجرمون ؟
قال فيرابيند: “لقد اعتقدت ذلك لفترة طويلة، لكنني تراجعت عنه في العام الماضي؛ لأن هناك الكثير من المفكرين الجيدين”ثم التفت إلى زوجته قائلًا “أعني،لأنكِ مفكرة !”
أجابت زوجته :” لا ، أنا فيزيائية”،لم يُجب فيرابيند .
ثم قال: “ما معنى “مفكر” ؟ ربما يعني أولئك الأشخاص الذين يفكرون في الأشياء أكثر من غيرهم، ربما، لكنّ الكثير منهم يدهس عقول الآخرين قائلين”لقد اكتشفنا ذلك”.
شرع فيرابيند بعد ذلك في نقد المفهوم الغربي للتقدم.
الرجال في قبيلة الكونج في إفريقيا “يعيشون في بيئة لن يصمد فيها شخص غربي لبضعة أيام، ربما تقول أن الناس في هذا المجتمع يعيشون لفترة أطول الآن، ولكن السؤال ما نوعية الحياة التي يعيشونا، هذا لم يُعرف بعد”.
قلتُ : إن القبليين الجهلة قد يكونون سعداء لكنَّهم جهلة، أليست المعرفة أفضل من الجهل؟
أجاب فيرابيند: ما الشئ العظيم و الضروري جدًا في المعرفة ؟، إنهم ودودون مع بعضهم البعض، ولا يُغِيرون على بعضهم البعض، كما أنهم يعرفون الكثير عن بيئتهم أكثر مما يعرفه الخبراء المزعومون، إذن القول بأن هؤلاء الناس جهلة = هو الجهل بعينه !”
سألت فيرابيند حول دفاعه عن الخلقوية، ألم يشعر بالقلق من مساعدة المحافظين الدينيين، الذين قويت شوكتهم في الولايات المتحدة في مهاجمة العلم ؟
قال غاضباً : ” لقد اُستُخدِم العلم ليُقال أن بعض الناس لديهم مُعامِل ذكاء منخفض (IQ)، إذن كل شئ يمكن استخدامه في أغراض مختلفة، يمكن أن يُستخدم العلم لكي يمحو كل أنواع ثقافات الشعوب الآخرى”
لكن ألا يجب تعليم الأطفال الفرق بين النظريات العلمية والأساطير الدينية؟
أجاب : ” بالطبع، أود القول أن العلم يحظى بشعبية كبيرة هذه الأيام، لكن بعد ذلك يجب أن أترك للطرف الآخر فرصة الحصول على أكبر قدر ممكن من الأدلة، لأن الطرف الآخر دائمًا ما يُسمح له بعرض قصير جدًا لأدلته”.
بدا فيرابيند أنه يميل إلي النسبية الثقافية حسب تصور ستيوارت ميل، مُحَاولاً حماية أنظمة المعتقدات المختلفة في العالم من تنمر العلم.
لقد قمتُ بصياغة سؤالي المفخخ : أليس هناك تناقض في الطريقة التي تُستَخدم فيها الطرق العقلانية لمهاجمة العقلانية؟
انزعج فيرابيند وقال بلطف: “حسناً، إنها مجرد أدوات ، ويمكنك استخدام الأدوات بالطريقة تراها مناسبة، لا يمكنهم إلقاء اللوم عليّ لأنني أستخدمها”.
شعر فيرابيند بالملل من هذا الموضوع، لكنه استعاد حماسه عندما أخبرني عن كتاب كان يعمل عليه “غزو الكثرة” يتحدث فيه عن شغف البشر بالاختزالية، سوف يتناول الكتاب حقيقة أن جميع المؤسسات البشرية تسعى للحد من التنوع الطبيعي، أو”الكثرة” الموجودة في الواقع.
“قبل كل شئ فإن نظام الإدراك الحسي يقلل من هذه الوفرة/الكثرة وإلا فإنك لن تبقى على قيد الحياة، الدين والعلوم والسياسة والفلسفة هي محاولاتنا لاختزال الواقع بشكل أكبر. بالطبع هذه المحاولات المبذولة للتغلب علي الوفرة تخلق تعقيدات جديدة، لقد قُتل الكثير من الناس في الحروب السياسية، أعني أن الآراء الجامدة غير محبذة “. أدركت أن فيرابيند يتحدث عن البحث عن حل لمعضلة العالم الخارجي.
بالنسبة لفيرابيند فإن الحل سيبقى دائمًا بعيدًا عن متناول أيدينا، وسخر من اعتقاد بعض العلماء أنهم قد ينجحون يومًا ما في اختزال الواقع في نظرية واحدة.” دعهم يصدقون اعتقادهم، إذا كان ذلك يُشعرهم بالسعادة، اتركهم أيضاً يتحدثون عن ذلك كما لو كان حقيقة… يقول البعض بنبرة باردة أو بنبرة متحمسة (وصلنا إلى حافة اللانهاية! ياللروعة، إنه يقول أنه وصل إلى اللانهاية) ولكن لكي نقول للأطفال في المدارس أن هذا حقيقي، فهذا بعيد تمامًا عن الحقيقة”.
ويرى فيرابيند أن جميع أوصاف الواقع ليست كافية “هل تعتقد، كما يرى هؤلاء البلهاء النكرة، أنه يمكن للإنسان-وفقًا لعلم الكونيات اليوم!- أن يكتشف كل شيء؟ هذا جنون! لا يمكن أن يكون هذا حقيقياً! إن كل ما اكتشفوه ما هو إلا ردة فعل معينة لأفعالهم، ثم تُعمَّم هذه الاستجابة المبنية على أفعالهم هم، والحقيقة الموضوعية وراء ذلك كله تسخر منا “ياللبلهاء، يعتقدون أنهم اكتشفوني!”
” نشأت اللغة من التعامل مع الأشياء كهذا الكرسي وبعض الأدوات الأخرى، وفقط على هذه الأرض الصغيرة!” توقف فيرابيند مؤقتًا ، وشرد في شئ من التصوف ثم استطرد “هل تعلم أن لله فيْضًا/انبثاقات؟ وتظل تهبط أكثر فأكثر نحو المادية، وفي الأسفل،في أواخر هذا الفيض ، يمكنك أن ترى أثراً بسيطاً له ثم تبني عليه”.
فوجئت بهذا الغضب عندما سألت فييرابيند إذا كان دينيًا. فأجاب: “لست متأكداً” لقد تربى على الكاثوليكية ، ثم أصبح ملحداً متعصباً. ” والآن نحت فلسفتي منحنىً مختلفاً تماماً، لا يمكن أن يكون هذا الكون انفجر هكذا-كما تعلم- ثم أخذ يتطور حتى صار كما هو الآن… هذا لا معنى له تمامًا”.
أثناء استعدادي للرحيل سألني فيرابيند إن كنت متزوجاً، قلت : نعم ،وأضفت أنني قد أخذت زوجتي لتناول العَشاء في الخارج أمس احتفالًا بعيد ميلادها،
سألني فيرابيند كيف كان العَشاء؟
فأجبته : كان جيداً ، ” ألم تبالغ في الأمر؟ لعله آخر عيد ميلاد ستحتفل به معها أليس كذلك؟”
قالت بوريني بغضب “لماذا يجب أن يكون كذلك؟”
صاح فيرابيند ملوحًا بيده “لا أدري، ربما لأن ذلك ما يحدث عادة “، ثم التفت إلي و قال ” كم مضي على زواجك ؟”
قلت : ثلاث سنوات .
قال: نعم، إنها فقط البداية،سترى الأشياء السئية تباعًا، انتظر 10 سنوات فقط.
قلت: الآن تبدو حقًا فيلسوفاً،فضحك ثم اعترف بأنه تزوج وطلق ثلاث مرات قبل أن يلتقي بوريني ، ثم تبادل نظرات حميمة مع بوريني “الآن وللمرة الأولى ، أنا سعيد جدًا بهذا الزواج”.
أما عن بوريني، فقد ذكرتُ أن زوجها أرسل لي صورته وهو يغسل الصحون”نشاطه المفضل”. استاءت بوريني وقالت : “هذا فقط عند رؤية القمر الأزرق”[تعني أن هذا نادرًا ما يحدث].
صاح فيرابيند : ” ماذا تعنين بمرة واحدة عند القمر الأزرق! أنا أغسل الصحون كل يوم!”
أعادت بوريني عبارتها بكل حزم : مرة واحدة عند القمر الأزرق.
قررت أن أصدق الفيزيائية بدلاً من الفيلسوف.
بعد أقل من عامين من لقائي فيرابيند ذكرت صحيفة التايمز أن ورمًا في المخ قتل “الفيلسوف المناهض للعلوم”، اتصلت ببوريني في زيوريخ لأعزيها كانت مذهولة.
كان فيرابيند يعاني من الصداع ومات بعد بضعة أشهر.
وعلى ذكر تنديد فيرابيند بمهنة الطب،لم أستطع مقاومة السؤال: هل سعى لطلب العلاج الطبي؟
أجابت: بالطبع، كانت لديه “ثقة تامة” في تشخيص أطبائه، وكان على استعداد لقبول أي علاج يوصون به؛ اُكتُشف الورم لكن بعد فوات أوان العلاج.
وراء تصورات فيرابيند الغريبة هناك موضوع خطِر للغاية : إن سعي البشر الحثيث للوصول إلى الحقائق المطلقة، مهما كان نبيلاً، فغالبًا ما يصل إلى الطغيان. هاجم فيرابيند العلم؛ ليس لأنه كان يرى في الواقع أنه لا يختلف كثيرًا عن التنجيم أو الدين، بل على العكس تماماً، لقد هاجم العلم لأنه أدرك -و قد فزعه ذلك- طغيان العلم الواسع على أنماط المعرفة الأخرى، كانت اعتراضاته على العلم أخلاقية وسياسية أكثر منها إبستمولوجية. كان يخشي العلم بسبب سلطته الهائلة تحديدًا، والتي بدورها يمكن أن تتحول إلى قوة استبدادية تسحق كل منافسيها.