- ناثانيال براندون
- ترجمة: سارة بن عمر
- تحرير: لطيفة الخريف
“إن أعظم الشرور التي يمكن أن تصيب الرجل هي عندما يتوجب عليه إساءة الظن بنفسه”.
إذا كانت عبارة جوته هذه تقارب الواقع، فإن ما هو مأساوي هو حقيقة أن كثيرًا من الناس “يسيئون الظن بأنفسهم” أو بعبارة أخرى فهم يتصارعون مع تدني تقدير الذات.
لقد استشفّ الاختصاصي في علم النفس والكاتب غزير الانتاج ناثانيال براندان تفشي تدني (انخفاض) تقدير الذات والحاجة الحيوية لذلك في آن معا، مدعيا أن قلة تقدير الذات كانت السبب الأساسي الكامن وراء فشل الأفراد في بلوغ النجاح والإنجاز في الحياة.
“من بين الأحكام التي نطلقها في الحياة، لا يوجد ما هو أكثر أهمية من ذلك الحُكم الذي نطلقه على أنفسنا وذلك لأن هذا الحكم يلمس بشدة محور وجودنا ” *
يتصور براندون تقدير الذات على أنه الميل للشعور بأننا قادرون على الأداء الناجح في الحياة وهذا يتضمن الاعتقاد أن باستطاعتنا تحمل لكمات وضربات القدر فننحت معنى ونحقق وجودا (أو كينونة)
إن الافتقار لتقدير الذات هو اختبار لشعور أن أنفسنا “غير ملائمة للحياة” وهو أيضا الخوف من كوننا وبطريقة ما “الشخص الخطأ” أو أننا غير قادرين على تحقيق حياة ذات معنى وإنجاز. من وجهة نظر براندون فإن تدني تقدير الذات يمكن أن يكون أصل مشاكل مألوفة كالاكتئاب والقلق وشعور عام بالفتور والافتقار للحافز في الحياة.
إن خوفنا من احتمالية كوننا “الأشخاص الخطأ” هو خوف شديد (انفعالي) نسعى لكبته وتجاهله، والذي سنكون غير قادرين على مجابهته وتجاوزه بدون الامكانيات الداخلية (الذاتية) المناسبة -كما اعتقد براندون-. لكن وكما هو الحال مع كل المخاوف وحالات القلق وعدم الأمان التي نحاول تجاهلها عندما تكون خارج دائرة وعينا، فإن هذا الخوف لا يمكن إلا أن ينمو أكثر ويخترق مناطق أوسع في حياتنا وشخصيتنا. وفي الحالة القصوى يمكن أن يسيطر علينا بالكامل فنصبح خائفين من الوجود نفسه:
“يبلغ الحد بالشخص الذي يعاني من فقر في تقدير الذات إلى أن يصبح وعيه محكوما بالخوف؛ الخوف من الآخرين، الخوف من الوقائع الحقيقية أو المتخيلة المتعلقة بالذات والتي وقع تجنبها أو كبتها. يوجد خوف من العالم الخارجي وخوف من العالم الداخلي… يصبح الخوف بالتالي هو القوة الدافعة المركزية داخل الشخصية.” *
لمجابهة تدني تقدير الذات علينا مجابهة وتجاوز هذا الخوف، ولهذا اعتبر براندون تطوير تقدير الذات يمكن أن يكون “صراعا ذا أبعاد بطولية”. علينا تعلم استبدال خوفنا من الذات والوجود بـ amor fati.
حب القدر
“إن الأساس الذي يميز بين الدوافع الرئيسية لتقدير الذات العالي وتلك المتعلقة بتقدير الذات المتدني هو نفسه أساس الدافع المتأتي من الحب في مقابل الدافع المتأتي من الخوف، إنه حب الذات والوجود في مقابل الخوف من عدم أهلية أو كفاءة أحدنا للوجود. الدافع المتأتي من الثقة والتي تتجلى أولى مظاهره في القدرة على الاستمتاع في مقابل دافع الذعر والذي تبدو أولى مظاهره في تجنب الألم.” *
إن عملية استبدال الخوف بحب الذات والوجود أو بتقدير الذات الإيجابي تُدعم من خلال صقل أعمدة داخلية. هذه الأعمدة تمثل حجر الأساس أو القاعدة التي يُبنى عليها تقدير الذات الحقيقي. بتركيز هذه الدعائم وغرسها في طريقة عيشنا سنبدأ بتطوير التقدير الذاتي الإيجابي وسنشرع -حسب براندون- في المضي قدما نحو الهدف الأسمى للوجود الإنساني ألا وهو “تكريم الذات”.
إرادة الفهم
لقد لقّب براندون إرادة الفهم “بالعمود المحوري لتقدير الذات الإيجابي” وهذا يتضمن الالتزام بطلب المعرفة على حساب الجهل وطلب الحقيقة على حساب الوهم. إن الإخلاص لهذه الركيزة يمكن أن يكون صعبا للغاية فيما يتعلق بالحقائق وخصوصا الحقائق التي لا تروق لنا حول أنفسنا والآخرين أو الوجود والتي قد تسبب لنا إزعاجا وقلقا بل حتى هلعا.
إن الحقائق قد تفضي بنا إلى إدراك ما يحطم نظرتنا للعالم ولهذا يختار العديدون -بوعي أو دون وعي منهم- البقاء مرتاحين على جهلهم بنواحي أنفسهم والعالم من حولهم. إذا كنا ملتزمين حقا بتطوير تقدير الذات الإيجابي فإن عدم الوفاء هذا للحقيقة في سبيل الدّعة لهو أمر غير مقبول. يجب علينا اتباع الحقيقة حيثما تقودنا ومع أن الحقائق قد تحفّز الشعور بالخوف والقلق بصورة مؤقتة ففي النهاية الوعي الأعظم يؤدي دائما إلى النماء الذاتي.
“في كل مرة نعترف فيها بحقيقة عسيرة، في كل مرة نواجه فيها ما كنا نخشى مواجهته، في كل مرة نُقرّ فيها لأنفسنا وللآخرين بحقائق الوجود التي كنا نتجنبها، في كل مرة نكون فيها على استعداد لتحمل الخوف والقلق المؤقتين في سبيل اتصال أفضل بالحقيقة، في كل هذه المرات يرتفع تقديرنا للذات.” *
إرادة التفكير باستقلالية
نظرا لوجود نزعة فطرية لدى الكائن الإنساني نحو المكوث المريح في الجهل فإن الالتزام بالحقيقة يتطلب منا تطوير دعامة أخرى لتقدير الذات، إنها إرادة التفكير باستقلالية. أثناء البحث عن الحقيقة سنكون مُجبرين لا محالة على التحرر من ذهنية الفكر الجمعي التي تتحكم في الآخرين. سيكون علينا أن نحلل نقديا المعتقدات والممارسات المُعتنقة بصورة شائعة وفي النهاية تطوير نظرة للعالم مبنية على استنتاجاتنا الخاصة.
كوننا حيوانات اجتماعية ترنو فطريا للقبول والانتماء فهذا قد يستدعي القلق ويجعلنا في النهاية واعين بـ”عزلتنا المحتومة” وذلك نظرا لحقيقة أننا بوصفنا أفرادًا فريدين ومنفصلين وكل منا مسؤول بشكل منفرد عن حياته الخاصة.
الالتزام بالمسؤولية الذاتية
إن هذا الإدراك يتطلب تطوير عمود آخر ألا وهو الالتزام بالمسؤولية الذاتية. يوجد جانبين لهذا العمود. في البداية علينا أن نستوعب ونتقبّل أنه لا أحد هنا لإنقاذنا أو لحلّ مشاكلنا، وثانيا:
“أننا لم نوجد على وجه هذه البسيطة لنعيش وفق توقعات شخص آخر”. *
كلا هذين الإدراكين قد يكون عسيرا ومع ذلك محررا، وينتجان عن التحوّل في طريقة عيشنا أكثر من الانسجام مع انفرادنا وتفرّدنا.
إرادة أن تكون فعالاً
إن العمود الأخير الذي سنناقشه هنا هو “إرادة أن تكون فعالا” وهو “رفض الوعي الإنساني قبول العجز بوصفه حالة دائمة وغير قابلة للتغيير” *
إن من المُحَتّم والضروري أن نواجه فترات فشل ونضال في حياتنا. عند تدني تقدير الذات سنتجاوب مع هذه الأوقات عبر الانبطاح وتقبل الهزيمة واستخلاص أننا لن ننجح أبدا أو نحقق ذواتنا، أما عند ارتفاع تقدير الذات فإننا لن نشعر بالهزيمة أمام هذه اللحظات بل سنشعر بالاستقواء بل حتى التجدّد. سوف نستخدم أوقات الصراع كوقود نشعل به رغبتنا الجامحة للنجاح ونُعزّز إصرارنا لنضمن ألا نسقط بعنف المرة القادمة التي نتلقى فيها ضربة.
“إرادة أن تكون فعالا، كان هذا المفهوم هو ما ساعدني على تفسير أمر لاحظته عند حرفائي وطلابي. إنه المبدأ الذي ساعدني على فهم الفرق بين هؤلاء الذين شعروا أساسا بأن الحياة هزمتهم وهؤلاء الذين لم يفعلوا” *
الأهمية الحيوية لتقدير الذات
إن تنمية تقدير الذات هي عملية صعبة تتطلب كلا من الوقت والجهد هذا بالإضافة إلى الفحص العميق للذات. ومع ذلك فهو صراع يستحق هذا الجهد. في العصر الحديث يحكم الناس على أنفسهم استنادا إلى آراء الآخرين ويحددون قيمتهم بناء على ما يفكر فيه الآخرون حولهم، وهذا يؤدي إلى تكوين شخصية تابعة فيصبح الهدف الرئيسي في الحياة وفقا لها هو إرضاء وإثارة إعجاب الآخرين.
إن الحياة الناجحة تتطلب أن نعيش ونتخذ قرارات بناء على قيمنا الداخلية الخاصة بنا وانفرادنا وهذا ما يستوجب غرس تقدير الذات حتى يكون لدينا ثقة فيما نحن عليه حتى وسط استنكار الآخرين. يجب علينا أن نتعلم النظر لأنفسنا بصورة أكثر واقعية وتشجيعا على أننا الحاكم المطلق لحياتنا الخاصة فنكون بالتالي الشخص الوحيد الذي نسعى جاهدين لإثارة إعجابه دون قيد أو شرط.
“إننا نقف وسط شبكة من العلاقات شبه لا متناهية مع الأشخاص الآخرين والأشياء والكون. ومع ذلك، فإننا نعي جيدا، عندما نكون لوحدنا مع أنفسنا في الساعة الثالثة صباحا، أن العلاقة الأكثر صلابة وحميمية من بين كل العلاقات والعلاقة التي لا نستطيع التملّص منها هي علاقتنا بأنفسنا. لا يوجد جانب مهم في تفكيرنا ودوافعنا ومشاعرنا أو سلوكنا لا يتأثر بتقييمنا الذاتي. نحن كائنات حية ليست واعية فقط بل تتميز بالوعي الذاتي. هذا عزّنا والذي يكون في بعض الأحيان وزرنا.” *
[*] (ناثانيال براندون، تكريم النفس: تقدير الذات والتحوّل الذاتي)
المصدر: academy of ideas