- تأليف : تيري بِنكارد – Terry Pinkard
- ترجمة : محمد صديق أمون
- تحرير : خلود بنت عبدالعزيز الحبيب
التاريخ، أو دراسته على الأقل، في وضعٍ يُرثى له هذه الأيام. الكلُّ تقريباً يسلّمُ بأنَّ معرفة التاريخ مهمة، لكن في الولايات المتّحدة دراسة التاريخ، اللهم إلّا في صفوة المدارس، في تدهور مستمر.
وعصرنا هذا على ما يبدو يرددُ صيحة ج.ف.ف هيغل (1770-1831) المرتابة حينما قال أنّ الدرسَ الوحيد الذي تعلّمناه من التاريخ، هو أنّه لم يتعلّم أحدُّ من التاريخ أيَّ شيء. لماذا؟ إنّ الحاضر جديدٌ دوماً، والمستقبل يبقى غير مجرّب، وهذا يدفعُ الكثيرين للاقتناع بكلمات رجل الأعمال الأمريكيّ هنري فورد الذي صرّح في1921 بأنَّ التاريخ بشكل عام لغوٌ باطل، ومع هذا يجادلُ هيغل نفسُه أنّه وإن كانت الأمور بالفعل تبدو دوماً جديدةً غيرَ مسبوقةٍ، فإنّ لدى التاريخ ما يخبرنا إيّاه حيال غاياتنا القصوى
نحن جنسٌ فريد، وماهيّة كوننا ما نحن عليه لا تفتأ تكون مشكلة لنا، جزئياً لأننا نصيّر أنفسنا إلى أنواع الكائنات التي نحن عليها، ولأننا نتحرى ذلك بكل الطرق المختلفة التي نعيش بها حياتنا، فرديّاً وجماعيّاً. لا تشملُ دراسةُ التاريخ مجرّد سرد القصص، أو تكديس الحقائق، إنّما هي في بنيتها الواسعة سِجلُّ متحقق لسعي البشريّة نحو فهم ذاتها بكلّ الصور العديدة التي تُظهرها في الحياة اليومية، وأيضاً بيانٌ لكيفية ارتباط التغيّرات التاريخيّة بتغيُّر أساسيات فهمنا لأنفسنا، فكما قال هيغل في سلسلة محاضراتٍ ألقاها في سني 1822-30، :ما “نحن” إلا صُنع أنفسنا، وما الدراسة الفلسفيّة للتاريخ إلّا بحثاً في كيفيّة تغييرنا لهيئة أنفسنا عبر الزمن.
لم يقدّم أحدٌ أبداً تصوراً لتاريخ فلسفيّ أكثرَ نُضجاً وديناميكيّة من تصوّر هيغل؛ حيث أنّه رفع عماد نظامه الفلسفيّ هذا على ثلاث أفكار أساسيّة: أمّا أوّلها فاعتقاده أنّ مفتاح الفعاليّة البشرية هو الوعي الذاتيّ؛ لأنّ أيّ فعلٍ مُعتَبرٍ نأتي به، يستلزم أن نكون واعين بما نأتيه عند فعلنا ذلك، وهذا يشمل أيضاً الحالاتِ التي لا نفكر فيها صراحةً بما نقوم به، وهاك مثالاً يجلّي المقصودَ، هبْ أنّه أثناء قراءتك هذه الكلمات، وصلتك رسالةٌ من صديق ما يسألك فيها: “ماذا تفعل الآن”؟ ستجيبه أنت على الفور قائلاً :”أقرأ عن هيغل”، فإذن علمتَ ما كنت تقوم به دون أن تلجئ لتفكير مستقلٍ أو لتكلّف أي استنتاجات، فأنت بلا مزيد تفكيرٍ، قد أدركتَ أنّك لم تكن تمارس القفز المظليّ، أو البستنة، وأنّك لم تكن تستحمُّ، أو تحل الكلمات المتقاطعة، ومن غير أن تحتاج للنظر من حولك طلباً للدليل، ولا للقيام بأي استبطان معيّن، في الواقع وبكلام هيغل، عندما تقوم بأمر ما دون أن تكون مدركاً لما تفعل، فلست تفعل شيئاً على الحقيقة، بل هي مجرد أمور تقع. نعم، قد يحدثُ أن يكون إدراكنا في بعض الأحيان لما نفعلُ مبهماً وناقصاً، لكن على أي حال، حتّى وعيُنا الذاتيّ التأمليّ البعيد الغور لا يعدو أن يكون إدراكاً آخر لعلاقة ذاتية أشد عمقاً و هيغليّةً، إنَّ الوعي كلَه وعي ذاتي.
ثاني تلك الأفكار هو اعتقاد هيغل أن موضوع الوعي الذاتيّ هو تحديد موقع ذواتنا في فضاء اجتماعيّ ما قوامه الـ “أنا”، والـ”نحن”. والكلام عن الـ “أنا”، أو الـ”نحن” ليس إلا حديثاً من أحد وجهي العملة الديالكتيكية عينها، ففي أحايين عديدة تبدو الـ”نحن” حصيلة الكثير من قبيل “أنا أفكر” أو “أنا أفعل”، لكن الـ”نحن” في جوهرها تماثل الـ”أنا” في أوليتها، فالوعي الذاتيّ الفرديّ هو في الأساس اجتماعيّ، كليّة الـ”نحن” تُبين عن نفسها بالأفعال الفرديّة لكل واحدٍ منّا، لكنّها نفسها ليست سوى الأفعال الفرديّة التي يأتيها فاعلون أفراد من لحمٍ ودم، فعندما أكون عالماً بالأمر الذي أفعله، أكون كذلك عالماً بأنّي أفعله، دعنا نقل، على الوجه الذي نفعله وفقه “نحن”.
من الخطأ الظنُّ أن أحد الوجهين أهمّ من الآخر، فلا الـ”أنا” مجرد نقطة خاوية المضمون مستوعبة تماماً داخل فضاء الـ “نحن”، ولا الفضاء الاجتماعيّ، الـ”نحن”، مجرد تجمّع “أنا” عديدين، فبغير الممارِسين ليس هناك ممارسة، وبغير الممارسة، ليس هناك ممارسون، وهذا أمر تصعُب ملاحظته أحياناً، فكثيراً ما يحاول الـ”أنا” فصل نفسه عن الـ”نحن” والتمرد عليها (فكّر في الوجوديّة)، وأحياناً يجهدُ الـ”أنا” للذوبان كليّاً في الـ”نحن” (اذكر حُلمَ التوتاليتاريين). وأحيانا يسعى الـ”أنا” لنيل اعتراف الـ”نحن” عبر تصنّع ما ليس فيه (تأمل شأن المحتال). وتبرز جميعُ هذه الصور القاصرة للـ”أنا” والـ”نحن” بأشكال مختلفة عبر التاريخ.
وأخيراً، بالنسبة للبشر، كما هي حال الأنواع الأخرى، توجد سُبُل فيها تسير شؤون أفراد النّوع إما إلى الأفضل وإما إلى الأسوء، فكما أنَّ الأشجار لا تُزهر كما ينبغي بغير تربةٍ مناسبةٍ، والذئاب بعيداً عن المحيط البيئيّ الملائم لا تستطيع أن تصير إلى ما يُمكن لها، كذلك يقيمُ البشر الواعون ذاتياً مجالاتٍ أسريّةً، واجتماعيّة، وثقافيّةً، وسياسيّةً تمكّنهم من أن يصبحوا نُسخاً جديدةً، مختلفة، و أفضل من أنفسهم، لكن ما نستطيعُ أن نكونَه يعتمدُ على موضعنا في التاريخ، فأجداد أجداد أجدادك لم يرغبوا يوماً بأن يكونوا مبرمجين مثلاً، ولا قرويو القرون الوسطى كانوا يطمحون لأن يصبحوا مديرين متوسطين في شركة عالميّة لجمع النفايات، يرتبط كوني من “أنا” دوماً بما نفعل “نحن”، لكن ليس من الصواب أن نعُدَّ تصرفاتنا الفرديّة تطبيقاتٍ مخصوصة لقواعد عامّة، بل يستحسن أن نقول أننا نمثّل بطرق أفضل أو أسوء ما هو مُتاح لنا لنكونه، سواءٌ في الصداقة، أو لعب الشطرنج، أو تقطيع الخضار، أو المواطنة. عمومية الممارسة تحدد المعايير التي يمكنني من خلالها أن أتألّقَ مثل أي واحد من هؤلاء، لكن أنا من يحدد طريقة تنفيذي للممارسة، و”نحن” جميعاً نساهم في معاينة مدى تقارب وتباعد الـ”أنا” والـ”نحن”.
نحن بصفتنا أفراداً اجتماعيين واعين ذاتيّاً نعيد تشكيل حياتنا، ونضفي معانٍ جديدةً على أمور قديمةٍ (من الجنس والطعام حتى تعقيدات آداب المائدة)، ما يجعلنا نكتسب مجموعة عاداتٍ جديدةٍ، ونُتم ملامحَ حياتنا الحيوانيّة بطُرقٍ مدهشةٍ، نستقر في مكانٍ ما، ومن ثم نرتحلُ. على أنَّه من النادر أن يتمَّ كُل هذا بطريقة سلميّة تماماً، حيث أننا نوجد بصفتنا أفراداً بهويات اجتماعيةٍ، ونعيش في فضاء اجتماعيّ نساهم جميعاً في تأسيسه والمحافظة عليه، لكن بعض العلاقات الاجتماعيّة مرتكزةٌ على القوة المحضة و الإخضاع و الإذلال (مثل علاقات السادة والعبيد)، والصراع منتشر ذائعٌ، والتاريخ كما قال هيغل يظهرُ مثل مذبح عظيم عنده قُدمت قرابين أرواح وسعادة الملايين.
بسبب الطريقة التي بها يقوم النّوع البشريّ، “الحياة الواعية ذاتياً”، على تأويل وإعادة تأويل نفسه، يبدو التاريخ لأول وهلة مُحبطاً بعض الشيء، فحضارات بحالها، وأشكال حياةٍ مختلفة تبرز للوجود ثم تمّحي، وتختفي طُرق العيش القديمة، ولا يظلُّ شيء على حاله، يشدد مقترح هيغل الفلسفيّ الجريء على أننا ننظر إلى هذا التعاقب بصفته مبيناً للطرق التي تنتج بها كل صورة فرديّة من صور الحياة الاجتماعية البشرية تجاذباتٍ واضطرابات داخل نفسها، وحينما تزداد التوترات وتتفاقمُ حتى تغدو طريقة الحياة هذه في النهاية غير ذات مغزى لدى الممارسين، تمسي الحياةُ لا تُطاق، وعندها تتحلل، وتتهاوى، تاركةً المجال لشكل آخر من الحياة، تنشأ صورةُ الحياة الجديدة حينما يقوم النّاس بعد الانهيار من بين الأنقاض الثقافيّة، منتقين منها ما بدا لهم نفعه، تاركين ما لم يعد يصلحُ، مبدعين من كل أولئك شيئاً جديداً في مكان ما تهدَّم من قبلُ. ثم ينشؤون مجتمعاً، يأخذ في التطور شيئاً فشيئاً إلى أن تتولد فيه هو الآخر تجاذبات واضطرابات تدفعه للانهيار كما انهار سابقه، وتنبثق بعد ذلك منه صورة جديدة للحياة. على الجملة، يساهم هذا الجانب من التاريخ في الشكل المتغيّر للحياة الواعية ذاتياً نفسها، وقد اختار هيغل للتعبير عن هذا المعنى المصطلحَ الألماني Giest (يُعرف عادة بالـ”عقل” أو الـ”روح” على اختلاف الترجمات). مع تنقُّله عبر التاريخ، يرتدي الـ Giest لبوساً مختلفة، ويتصوّر نفسه بأشكال متنوعةٍ، فهو لهذا بالنسبة لمن يبتغون ملاحظتَه هدفٌ متحركٌ لا يقرُّ، قصة الانهيار والانبعاث مجدداً هذه هي ما يُعرف بديالكتيك التاريخ عند هيغل.
مع أنّ الفيلسوف الألماني المغمور هذه الأيام هـ. م. شالوبس (1796-1862) قد نجح في إقناع كثيرٍ من النّاس أنَّ “الأطروحة-نقيض الأطروحة- التوليف” تمثّل رؤية هيغل الديالكتيكية للتاريخ، لكن هيغل نفسه لم يصرّح أبداً بهذا، ويظهرُ جليّاً حتى من الجولة الخاطفة التي قمنا بها أن وجهة نظر هيغل أغنى مما تزعمه معادلة شالوبس الملتبسة.
استقرى هيغل تاريخ العالم متوخيّاً البحث عن أيّ منطق يحكم الطريقة التي تشكل بها الـ”أنا” والـ”نحن” نفسها عبر الزمان، هل كان الـGiest آخذاً في التحسُّن؟ بصفته أوروبيّاً من القرن التاسع عشر، لم يلقَ هيغل الكثير مما يستحق الالتفات إليه في حضارات آسيا أو إفريقيا أو الأمريكيتين، فكلها كما اعتقد قد ثبتت على مستوى معين من التطوّر، وهو ما سمّاه “الإلحاد السياسيّ”. ففي نظر هيغل، كان “الإلحاد السياسيّ” يعني عدم توفّر أي قضاء يمكن الاحتكام إليه عدا أوامر شيخ القبيلة، أو الملك، أو الإمبراطور. وعلى فرض كون الإمبراطور يقرُّ القوانينَ ويسعى في تنفيذها، فهذا ما زال حكماً بالقانون، وهو حكم فرديّ، وليس حكم القانون الذي هو غير شخصيّ، فالمبدأ السائد في “الإلحاد السياسيّ” أنّ هناك شخصاً واحدا حُراً لا غير (شيخ القبيلة، الإمبراطور ..الخ)، وهو وحدُه من له حرية التشريع، وما سواه فما له إلا أن يطيع. وليس ثمّةَ سلطة أعلى تقوّم الأوامرَ والمراسيم. فبهذا المعنى إذن، يصحُّ وسمُ شخص واحد لا غير (شيخ القبيلة، الإمبراطور ..الخ) بأنّه حرٌ، ولا يخفى أنّ هذا الكلامَ يلقي ظلالاً على تحيّزات القرن التاسع عشر الأوروبيّة أوسع مما يلقيه على أحوال المجتمعات الأخرى، لكن فكرةُ هيغل أعمّ من هذا.
اعتقدَ هيغل أنّ في اليونان القديمة حصراً حدث لأول مرّةٍ تجاوز البشريّةِ لفكرة أن هناك شخصاً واحداً في المجتمع حُراً لا غير، فكانت الفكرة الجريئة يومئذ أنّه يمكن وينبغي لمجموعة مختارةٍ من النّاس، الذكور البالغون من أهل كل مدينة، أن يشتركوا في الحكم، وكان كل واحدٍ منهم ينظر إلى الآخر بعين المماثلة، مقرّين أنّه لا سلطة لأحدٍ منهم على الآخر. وظنَّ هيغل أيضاً أنّه في عالم الإغريق ذاك، كان كل أحدٍ على درايةٍ بمنزلته من الاجتماع، وبالدور المُناط به. حيث أنّهم آمنوا أنّه إن أحسن كلٌ فعلَ ما عليه، صار المجتمع متناغماً في جمالٍ، بدا هذا الاندماج بين الخصوصية الفردية وحياة الاجتماع لا يعلى عليه لما فيه من كامل الحرية الفرديّة التي لم تكن لتحقق إلّا في ترتيب اجتماعيّ وسياسيّ يساوي بين جميع المواطنين الأحرار.
لكن ظهرَ أن في التُفاحة دودةً، فالحرية عند اليونانيين مرتبطةٌ بالاستقلاليّة، فلا يكون الواحدُ مستقلاً تماماً بأحكامه وأفعاله إلّا إن وُجد من يتكفّل له بالجوانب الأخرى للحياة، حيث وجدوا أنفسهم مُجبرين على العيش في عالمٍ يقوم على العبوديّة واضطهاد النّساء، وإن كان بعضُهم قد عدّ هذا الحيف مُزعجاً، فالأغلبيّة رأت أنّ هذا هو حال العالم المحتوم. مع هذا، ارتأى هيغل أنَّ خفيّ عدم رضا اليونانيين عن أنفسهم قد ظهر بشكل دراميّ في فنونهم.
كان المثال الأثير عندَه مسرحية أنتيغون، إحدى تراجيديّات سوفوكليس، ففي هذه المسرحيّة، يجد أبناء وبنات أوديب أنفسهم في موقف حَرِجٍ، حيث تصارع اثنان منهم على ميراث ملك أبيهم أوديب، فهلكا جميعاً، وتسلّم زمام الأمور خالُهما كريون الذي منعَ دفنَ أحدهما، فأبت ذلك أُختُهما أنتيغون ودفنت أخاها القتيل سِرّاً قائمةً بواجبِ الأخوّة المطلق، لكنّها كانت تعلم أنّ من واجبها أيضاً أن تطيع كريون (خصوصاً أنّها الصُغرى). فإذن وجدتْ نفسها محصورةً بين واجبين متضادين. وأيضاً كان من واجباتها ألّا تقرر لنفسها ما الذي يجب عليها فعلُه، بل دورها في الحياةِ أن تستجيب لما يُملى عليها من متطلبات، ثم لاحقاً ستدينها الجوقة الباقيةُ لسعيها غير المبرر للاستقلال.
كانت أنتيغون متورطةً في السعي لتحقيق أمرٍ كان في الغالب ممنوعاً عن النساء، لقد ابتغت الحريةَ، وهو أمرٌ يتطلب الاعتراف بأنّها مماثِلة، ولكن من الذي له سلطة فعل ذلك؟ لا يمكن أن يكون الزوج (هذا غير واردٍ في اليونان القديمة)، ولا أبناؤها (إن كان لها أولاد)، كلا ولا أبواها، ولا بالأحرى أختها، وحدُهم أخواها كانوا قادرين على ذلك، لكن كلاهما ميتٌ، في طلبها للحرية، حاولت أنتيغون أن تستمدَ مرادها من أخيها القتيل، وأولئك الذين يعرفون المسرحية يعلمون كيف انتهى الأمر. بعيداً عن كل شيءٍ، كانت أنتيغون في نضالها هذا تُبرز مكمنَ الدّاءِ في المبدأ اليونانيّ الذي يعطي الحرية لبعض الرجال ويَحرم آخرين منها، لقد كانت بفعلها هذا صوتَ المُبعدين الذي يصرخُ مُطالباً بضمّهم، والاعترافِ بانتمائهم، وبأنّهم مساوون للبقية، وأحرار مثلهم، وقد صاحتْ: إن كان “البعض أحراراً”، فلم لا أكون أنا أيضاً؟ بالنّسبة للمستمعين من أبناء اليونان يومئذ، كان الجوّ برمته مزعجاً، ولعلّ ذلك لبّس عليهم المشهد كلّه.
دالتْ دول الإغريق، وقامتْ على إثرها روما القديمةُ، في البداية بدا الأمر كأنّه ولادة شكل جديد للحياة يحلُّ مكان النموذج اليونانيّ الناشئ الذي فشل، لكنّ روما نفسها انهارت أيضاً، في نهاية الحقبة القديمة، بعد أن غدت النّصرانية ديانة الإمبراطوريّة، برزت بذور فكرة جديدة داخل الحياة الواعية ذاتياً، الهدف المتحرك أصلاً. إن كان الجميع أبناء إله واحدٍ، فكلنا إذن إخوة وأخوات مجازيّون، قد تكون العبوديّة والاضطهاد أحكام الأرض، أما المساواة فهي الحكم في ما جاوز ذلك، لأول الأمر لعلّ التناقض لم يبرز بشكل كامل حتّى، مع هذا كانت بذور تصفية الحساب قد نُثرت على تراب العالم، ومطالب أنتيغون كانت في طريقها لتصير عالميّة.
في نظر هيغل، أضاعت بشكل أو بآخر الحياةُ الأوروبيّة طريقها لفترة طويلةٍ من بعد تلاشي الديمقراطيّة اليونانيّة، واُستبدِل خليط الحضارة الرّومانية، والقانون الرّوماني، وفوقهما القوة الغاشمة للجحافل الرومانيّة بعالم مغترب، أحسَّ ساكنوه أنّهم مُجبرون على السعي لتحقيق متطلباتٍ لا تناسبهم، قد كان عالَماً مذبذباً بين استقرار هَش لا يدومُ وخوفٍ من حماقاته الخاصّة.
فمن حين لآخر، انغمسَ ذاك العالمُ فعلاً في حومة جنون محضٍ، وما الحملات الصليبيّة الرعناء إلا مثالٌ واحدٌ على ذلك، كذلك الهلع الشامل من السّحر، والذي أدى للحكم على مئات النّساء بالقتل.
في خلفيّة كل هذه الحوادث، كما يعبّر عنها هيغل، كان هناك “شعور عالميّ بعدميّة تلك الأحوال يسافر عبر العالم”، كان العالمُ كله يعيش في نوعٍ من الخوف بدا في المحصّلة غير مفهوم إطلاقاً.
سرعان ما اشتعل المزيج الخَطِرُ من الاغتراب الذاتيّ، وخواء العدم، والحنق العامّ من ظُلمِ النظام السائد، فانطلقت الثورة الفرنسيّة في 1789، هادمةً الأساسات القديمة التي قام عليها نموذج الحياة المغترب. وبقيامها تركت صورةً من الحرية غير مقيّدة بالماضي، قليلة الارتباط بالطبيعة، ومنبتّةً عن الدّين. نتج عن هذا، أو هكذا اقتنع هيغل، أنّه لم يكن لديها في البداية ما يكفي لتشييد عالم جديد، سوى أفكار مجرّدة عن الحريّة غير المقيّدة نفسها، ومناقب المواطنين المفترضة الأكثر تقييداً في دعمهم للحكومة الثوريّة، لكن بعد نوبة موجزة من العنف في عهد الذُّعر (1793-94)، هدأت الأمور، ثم من بعد 1815 كان النظامُ الجديد قد ثُبِّتَ في مكانِه، والثورة في طريقها لأن تؤتي أُكُلَها، أو هكذا أمّل هيغل.
لم يتردد هيغل يوماً في تقديره للثورة الفرنسيّة، بل كان يحتفي بذكراها في 14 تمّوز من كل عام؛ لأنّها عنده لحظة فاصلة في الحداثة الأوروبيّة، حيث أنّها أنجزت النقلةَ التاريخيّة من “البعض أحرار” (كما عند الإغريق والرّومان) إلى “الجميع أحرار”، أي أنّها حققت أنّه لا أحد بطبيعته خاضع لسلطة أي أحد آخر، لا عرق لعرق آخر، ولا المرأة للرجل، ولا الأقنان لملاك الأراضي، ولا العوامّ للأرستقراطيين، فريثما يتمّلك الناسَ فكر الحرية والمساواة، يستحيل أن يعاد العفريتُ إلى قمقمه ثانيةً. لقد ولّى نظام التبعيّة الطبيعية القديم، نظريّاً على الأقل، لأنّه مع تقدّم الـ Giest ، لم تعد لفكرة التبعية الطبيعيّة داخله أيّ معنى على الإطلاق.
لهذا كان على كل الأشياء الأخرى، بدءاً من الحياة الأسريّة وصولاً إلى هياكل الدولة أن تتغيّر كذلك، (شمل هذا بيقينٍ الارتيابَ في الطرق التقليديّة لعمل الأشياء بشكل أوسع حتى مما كان هيغل مستعداً للإقرار به)، لم يجرِ بالطبع وضع هذا في حيّز التنفيذ الأوروبي في القرن التاسع عشر على الفور وبشكل كامل. فلم تعنِ عبارةُ “الجميع أحرار” أن الاضطهاد قد تلاشى بعد ضربة واحدة، بل عنت صعودَ صور جديدة للفاعليّة مختلفة تماماً على خشبة مسرح العالم، والأهم من هذا أنّها أشارت لنقلة في مفهوم العدالة، فلم تعد المجال الميتافيزيقي لنظام العالم السرمديّ، بل غدت الفضيلة الأولى لعالم الحرية والمواطنين المتساويين.
مع الفصل الختاميّ للثورة، كان العالم الحديث آخذاً في التمظهر بشكل جديد، بصفته “صورة حياة”. انطوت الصورة الجديدة بالتأكيد على السِّجل النموذجي للحقوق العامة والمجرّدة (الحياة، الحرية، والملكيّة)، التي أذاعها في القرن السابعَ عشرَ الفيلسوفُ الإنجليزيّ جون لوك، والأهم من هذا أنّها جعلت الحياة الأخلاقيّة، التي تشمل العيش وفق أغراضِ يوافق عليها الجميع، ولا تكون خاصّةً بمجتمع دون آخر، عنصراً ضرورياً في تكويننا السيكولوجيّ، لقد حققت جانبي الحياة هذين بتضمينهم في مؤسسات وممارسات أكثر تعييناً. وذاك، على سبيل المثال، في إيلاء الأهمية القصوى لعلاقات الحب والصداقة، وفي العلاقات الأسريّة المتمحورة حول تنشئة الأبناء ليكونوا أفراداً مستقلين ومن ثمَّ بعد ذلك مواطنين صالحين، وفي جعل حكم القانون مبدأ دستوريّاً، وبهذا تبديل حال النّاس إلى الأبد من كونهم غرضاً لأهواء الأمير إلى مواطنينَ في دولة دستوريّة، وأيضاً أمّنت مجالَ حياةٍ، سمّاه هيغل “المجتمع المدنيّ، يجمع بداخله قوى السوق المُنتِجة المكتَشفة حديثاً و مجموعة المؤسسات التي يُفترض أن تقوم بتهدئة وكبح جماح القوى الرأسمالية العاتية التي يُخشى أن تسبب تآكل، أو تشوّه الدعائم المؤسسة للحب والصداقة في طَرف منها، والمواطنة والعدالة في الطرف الآخر.
في العقد الأخير من حياة هيغل، أخذ يتنامى داخل نفسه قلقٌ حيالَ آراءه هذه، مع أنّه أشار لطلابه حينذاك أنّه من غير المعقول تماماً أن تنشبَ حربٌ بين الدول الأوروبية (صدق هيغل في هذا، لكنه أخطأ حيال حدوث ذلك من عدمه)، وأمسى متشائماً للغاية من قدرة مؤسسات المجتمع المدني الأخرى الفعليّة على تخفيف وطأة السوق الرأسماليّة (مع أنّه لم يهجر فكرة أنّها تستطيع ذلك)، وضايقه كذلك حال الفردانيّة المفرطة التي قادتنا إليها السّوق، والتي كانت ربما كفيلةً بإفساد الأمر برمّته. في الواقع، وكما قد أخبر طلاب درس فلسفة التاريخ في 1831، أنَّ عدم التوافق الحاصلَ بين الفردانيّة الفائقة، وضرورات وجود حياة اجتماعيّة وسيّاسيّة مستقرّة قد سبب تصادماً، عقدةً كما سمّاها، عنده كان كما عدَّه، يقيمُ التاريخ بعد 1830، فحينما قادت السوق التنافسيّة إلى مجتمع تنافسيّ، وليس متعاوناً بالضرورة، صارت جماهير النّاس شِيعاً متعددة، وهذا عنى أنّ الحكومة مستحيلةٌ؛ لأنّ كل حكومة ستظهر دائماً أنّها مجرد حكم مؤقت لعصبة على أخرى، هذه هي العُقدة بعينها التي كان واجباً على المستقبل، كما أخبر هيغل طلّابه، أن يسعى في حلّها. بعد أشهر قليلة من تصريحه هذا، مات هيغل فجأة.
مما سبق من تساقط أشكال الحياة الاجتماعية، يجتمع لنا أخيراً تصورٌ فلسفيّ قريبٌ وشبه كامل عن الفاعليّة البشرية. الفاعلون إذن واعون ذاتياً، واجتماعيون ميتافيزيقيّاً في وعيهم الذاتي هذا. وهم يحققون ويخصصون الفاعليّة المجرّدة بصور حياة مختلفة. والصور المختلفة هذه تقوّض نفسها تدريجيّاً في التاريخ. ومجازيّاً، وصل الـ Giest (“نحن”) إلى هذه النتيجة عبر دفع نفسه عبر مفهوم ذاتي بأننا جميعاً أحرار ومتساوون، ولا يمكن عقلانيّاً الرجوع إلى الخلف، وبما أنّ كل ما فات قد تهاوى، قد كان علينا “نحن” أن نتوجه للتفكّر في كيفيّة تطبيقنا لهذه الفكرة، وقد اكتشفنا “نحن”،بعد انتباهنا المُحدث للحقيقة المتجرّدة، أنّ كولونيّتنا، وعنصريّتنا، وتحيّزنا الجنسيّ، وتجاهلنا لسياقنا الطبيعيّ يعاكس كُلَّ ما كنا نعتقد أننا قد صرنا إليه.
ما تعلمناه “نحن” فلسفيّاً وعمليّاً حتى الآن، من صور الفاعلية المفترض وجودها في مدن اليونان القديمة، مروراً بالذوات المغتربة ذاتياً في بواكير أوروبا الحديثة، وصولاً إلى رؤية ما بعد الثورة أنَّ “الجميع أحرار”، أن تاريخ العالم ليس إلا طريقة فرض الـ”نحن” فكرةَ الحرية والمساواة على أنفسنا، والتي تطالبنا بتحقيقها اليوم، فإذن إلى أين “نحن” نسير؟ حسب هيغل، الفلسفة لن تخبرنا، فبومة منيرفا (إلهة الحكمة) لا تحلّق إلا بعد أن تختفي الشمس وراء حُجُب الظلام، تظلُّ فكرة الحرية والمساواة غير مجادل فيها، ولا يبقى الآن سوى أن تفعّل، لكن عقدة كيفية تحقيق ذلك لا تزال مُحكمة.