- تأليف : كيتلين روزينثال – Caitlin Rosenthal
- ترجمة : عبدالجليل بن عبداللطيف السحيمي
- تحرير : نادية بنت خالد بن محمد
في عام 1911، عُقِدَت لجنةٌ خاصة بالكونجرس للتحقيقِ في تأثير المُمارسات التجارية الجديدة على حياةِ العمَّال، ومن الأمور ذات الأهمية الخاصة للجنة ما يُسمَّى الإدارة العلمية؛ وهو نظامٌ يسعى إلى قياسِ إنتاجية العمَّال وتحسينها. وكان أكثر المؤيدين للنظام هو مهندسٌ ميكانيكي يُدعى (فريدريك وينسلوتايلور)، وقد نَشَرَ مؤخَّرًا أهم أعماله “مبادئ الإدارة العلمية” الذي قد يُصبِح محكًّا مُلهِمًا لمهنة الإدارة. وفي الواقع، فإنَّ تأثيره مستمرٌ حتى اليوم، وغالبًا ما تبدأ مقالات تعريفِ روَّاد الإدارة به، مُشيدين بجهوده لتطبيق مقاييس دقيقة حتى على العمليات الأساسية.
إنَّ أوجُه الشبه بين ممارساتِ إدارة الأعمال الحالية والرِّق قد تمَّ إهمالها باستمرارٍ في النقاش السائد حول تاريخ المؤسَّسة الأمريكية.
ومع ذلك فعندما تمَّ استدعاء (تايلور) وآخرين للإدلاء بشهادتهم في عام 1911، كانت النبرةُ بعيدةً عن الإلهام، وذهب نُقَّاد الإدارة العلمية إلى نقطةٍ مرجعيةٍ مُختلِفَة تمامًا وهي “العبودية”.
وقال عاملٌ حديدي ذو خبرة يعمل لدى ترسانة Watertown Arsenal في (ماساتشوستس) للَّجنة: إن الإدارة العلمية شعرت به “كما لو أنَّ الأمرَ يتعلَّق بالرق” وأضاف قائلًا: إن المُدراء مارسوا السيطرة الشديدة؛ “يتابعونك عندما تكون في أثناء العمل.. ومع نظرةٍ مُراقِبَةٍ عليك بينما تنحني لالتقاط بعض قضبان الحديد.. هذا كثيرٌ جدًّا على الرجل أنْ يقف”.
وجادل رئيس اتحاد الميكانيكيين بأنَّ النظام “أودى بالرِّجال إلى الرِّق الافتراضي والأجور المنخفضة”، وبأنَّه “أحدَثَ جوًّا مِن الشكِّ بين الرِّجال؛ إذ يَعتبر كلٌّ منهم الآخر بأنَّه خائن مُحتمَل أو جاسوس”!
وفي ختام جلسات الاستماع، على الرَّغم مِن أنَّ اللجنة لم تتَّخِذ سوى إجراءٍ ضئيل، فقد وافقت على أنَّ عناصرَ النظام تصرفت “كسوطِ سائقِ العبيد على الزنجي، إذ أنَّه يبقيه في حالة مستمرة من الاهتياج”
وبالطبع يختلف تحديد ساعةُ التوقيت اختلافًا هائلًا عن جَلْدِ السَّوطِ أو استخدامِ السوط والساعة جنبًا إلى جنب كما كان الحالُ في بعضِ المزارع، ولكِنْ مع ذلك هناك شيءٌ يَكشِفُ ويثير قلقًا عميقًا حول هذا التشبيه، خاصة لأنَّ مؤيدي نظام الإدارة العلمية يستخدمون أحيانًا لغة الرِّق، ليس لإدانةِ النظام ولكِنْ للإشادةِ به! إذ جادل أحدُ المُنتَسِبين لتايلور، يُدعى (سكودر كلايس)، بأنَّ نظامَ الإدارةِ العلمية كان ببساطة عبارة عن “تعاون أو ديمقراطية”، لكِن تعريف (كلايس) للديمقراطية كان غيرَ ديمقراطي بالتأكيد؛ إذ يَصِفُه بأنَّه نظامٌ “يتكوَّن مِن أنْ يأخذَ الشخصُ القيادي زمام المبادرة في إعطاء “الأوامر” في الحالاتِ التي يتمتَّع فيها بقُدرةٍ فائقة، بينما يقوم الآخرون بتنفيذها؛ إنها علاقة السيِّد والعبد! بغضِّ النظرِ عن الطريقة التي يُمكِن بها تسمية ذلك بطريقةٍ أخرى.
ومِن وجهةِ نظرِ المدير فقد كانتِ السيطرةُ هي السمةُ الأساسية لنظام الإدارة العلمية، ويُمكِن أنْ تتغيَّر علاقات السيطرة بمرور الوقت: “في أي وقتٍ كان، قد تكونُ يدُ المَخرَطَة قادرةً على الظهور للمُشرِف بطريقةٍ أفضل”. ولكِن من وجهة نظرِ العمَّال، لم تُقدِّم الانعكاساتُ العابرة فائدةً تُذكَر! فعندما أظهروا للمُشرِف طريقةً أفضل، تخلَّوا عن سُلطَتِهم الخاصَّة وجعلوا أنفسَهم قابلين للاستبدال.
ويُمكِن العثور على التماثُل الأكثر وضوحًا بين الرِّق ونظامِ الإدارة العلمية في فكرة “المهمَّة” والتي وَصَفَها (تايلور) بأنَّها “العُنصرُ الوحيد الأبرز في الإدارةِ العلمية الحديثة” ويَرتَبِطُ نظام المهمَّة عن قُرب مع (هنري لورانس جانت)، المعروف جيدًا اليوم بمُخطَّط (جانت) وهي أداةُ تخطيطٍ، والتي لا تزال تَحمل اسمه، وخلال ذُروة الإدارةِ العلمية قام جانت بتطوير “نظام المهمَّة والمكافأة” والذي اقترن بعملٍ ثابتٍ وأجرٍ زمني مع مكافآت مُقابِل العمل الإضافي. ويتمُّ دفعُ أجرٍ أساسي للعمَّال بالإضافة إلى جزءٍ إضافي مُقابِل الإنتاج فوق الحدِّ الأدنى المَطلوب. ومِن خلالِ الجمع بين مهمَّة قابلة للإنجاز (بدلًا من الحدِّ الأقصى) مع المكافآت، سيستمتعُ العمَّال بضمانِ الحدِّ الأدنى للدَّفع، ولكِن سيتمُّ تشجيعهم أيضًا على السعي وراء ذلك.
وإنَّه لَمِن المُمكِن للنمو الاقتصادي أنْ يكونَ مُصاحِبًا للاختيار، لكنَّه أيضًا قد يُبنَى على العُنفِ والظُّلم!
ومع ذلك، فبينما قاموا بتقديمِ بعضِ التفاصيلِ الجديدة، لم يَقُم (جانت) ولا (تايلور) بإنشاء نظام المهام الذي لديه تاريخ أطول بكثير وكان واحدًا من الطرق الرئيسية لتنظيم العمل تحت الرِّق.
وبمُوجَب نظام المهام، يُخصَّص للشخص المُستعبَد “مهمة” مُحدَّدة أو حِصَّة يتوقع لها إكمالها بحلول نهاية اليوم؛ وهذا على النقيض من نظام العصابات، إذ يعمل المُستعبَدين تحت إشرافٍ مستمرٍ لفترةٍ مُحدَّدة مِن الزمن. وفي بعضِ الحالات، يُمنَح العبيد الذين استخدموا نظام المهام مكافآت مالية للإنجاز أعلى من الأهدافِ المُحدَّدة. لقد “علَّقوا الجزرة” بطريقةٍ لا تُشبِه أساليب (جانت) فحسب، بل أساليب شبيهة بأساليبِ الاقتصاد الحُر اليوم. وفي الواقع، باستثناء نظامِ الدَّفع الأساسي والقُدرة البالغة الأهمية للعمَّال على الاستقالة، فإنَّ نظام (جانت) الجديد كان في جميع النواحي تقريبًا هو نفسه النظام المستخدم مِن قِبَل بعضِ أصحاب الرَّقيق، وهي حقيقةٌ لم يقم (جانت) بإخفائها. وبدلًا مِن ذلك، أقرَّ بأنَّ كلمةَ “مهمة” لم يُعجَب بها كثيرٌ من الرجال “بسبب صِلَتِها بالرِّق، واعتبر أنَّ هذه الدلالة السلبية هي “عيبها الرئيسي”.
وكلُّ ذلك أقلُّ إثارةً للدهشة بالنَّظر إلى جذورِ نشأةِ (جانت) إذ وُلِد عشية الحرب الأهلية لأبٍ كان يَملك العبيد في ولاية (ماريلاند)، وكان والدُه (فيرجيل غانت) يمتلك أكثرَ مِن ستين مِن الرِّجال والنساء والأطفال. وكما كَتَبَ (جانت) قائلًا: “مُصطَلَح (مدير المهام) هو مُصْطَلَحٌ قديمٌ في لغتنا إذ أنَّه يَرمُز إلى الوقت، وهو الآن يرحل بسعادة، بينما أُجبِرَ الرجال على العمل، ليس لمصالحِهم الخاصَّة، ولكِن لمصالح البعض الآخر”. ولم يَكُن هدفُ (جانت) إلغاء هذا النظام القديم؛ ولكِن هدفه تكييف هذا النظام مع الاحتياجاتِ الحديثة. كما أوضح: “كانت السياسة العامَّة للماضي هي القيادة، ولكِن يجب أنْ يَفسح عصرُ القوة الطريق إلى المعرفة، وستكون سياسةُ المستقبل هي التعليم والقيادة لصالح جميع المَعنيين”.
وبمعنى آخر، قامت الإدارة العلمية بتكرارِ أساليبِ الإنتاج التي تقوم بها أعمال الرِّق بينما تتخلَّى عن المؤسَّسة نفسها. ولم يَكُن خطابُ (جانت) حولَ مِقدار المسافة ولكِن حول أهمية إحراز التقدُّم. وقد زعم قائلًا: “الإدارة العلمية تُمثِّل خطوة كبيرة للأمام بواسطة العبيد”. وأوضح (جيمس مابيس دودج)، وهو أحدُ أصحابِ المصانع في (فيلادلفيا) وأحدُ المؤيدين الأوائل لتايلور، في عام1913: أنَّه “لا يُمكِنُنا معرفة مَن الذي أطلق فكرةَ الإدارة العلمية، إلَّا إنها وُلِدَت للعالَم مع أول صرخة معاناة أُطلقت مِن ذلك العبد المعذَّب”. لقد كانت إشارةُ (دودج) مجازية، إلى ماضٍ غامضٍ وبعيدٍ حيث سادَت العبودية، وليس إلى العبد الجنوبي. لكنه فَهِم أنَّ “الجيلَ الحالي” قد ورث “من الماضي علاقة السيد والعبد” ورأى أنَّ مهمة الإدارة العلمية هي تَجاوُز ذلك.
وغالبًا ما تَفترِض الروايات الحديثة عن التطوُّر الرأسمالي أنَّ الثروة الهائلة المُتراكِمَة مِن قِبَل قلة مِن النَّاس تُرافِق ظروفًا محسَّنةً للكثيرين، وتاريخُ رقِّ الرأسمالية يُحذِّر مِن كلِّ هذه التوقعات.
في عام 1918، أقرَّ المؤرِّخ (أولريخ بونيل فيليبس) بوجود أوجه شبهٍ بين الإدارة العلمية والرِّق، كما يُلاحظ (دانييل جوزيف سينجال) ذلك. فعندما وَصَفَ (فيليبس) تطوُّر إستراتيجياتِ الإدارة الجنوبية، كان يَرغَبُ في الإشارة إلى سلسلةٍ مِن المقالات في Southern Planter (الفلّاح الجنوبي) كتبها HW Vick، والتي يُشبه “تحليلُها للموقفِ والحركة” بعضَ الدراساتِ الصناعية الأكثر تقدمًا في ذلك الوقت. وربَّما كانت وجهات نظرِ (فيليبس) الوردية حولَ الرِّق هي التي مكَّنته مِن رؤية هذه الروابط.
فقد كان (فيليبس) واحدًا مِن أكثر مؤرِّخي الرِّق تأثيرًا؛ وامتلأ عملُه بالنَّزعة العُنصرية، إضافةً إلى أنَّه صنَّف الرِّق “كالمدرسةِ” بالنِّسبة للمُستَعبَدين، وتَحمِل أوصافُه للتعاملاتِ بين المزارعين وعبيدهم أوجهَ تشابهٍ مُذهِلَةٍ مع الأساليب التي وصف بها (تايلور) التعاملات المثالية بين المدراء والعمَّال. وفي عام 1911، خلال أشهرٍ عديدةٍ مِن جلساتِ الاستماع في الكونغرس حولَ الإدارة العلمية، حاول (تايلور) إبعاد نظامِه عن العبودية من خلال وصفِه بأنَّه مدرسةٌ للعاملين الذين لا يَعرفون كيفية العمل؛ إذ قال: أنَّ هذا “ليس قيادةً للزنجي؛ هذا نوعٌ من اللُّطف والتدريس. وهذا يؤدِّي إلى ما أتمنَّى أنْ أقومَ به جيدًا لو كنتُ صبيًا أحاول تعلُّم كيفيةِ القيامِ بشيءٍ ما. ليست هذه حالة تكسير سَوْطٍ على رَجُلٍ والقول: اللعنة عليك، اغرب عن وجهي”.
وبعد مرورِ نِصفِ قرنٍ على (فيليبس)، وصف (كيث أوفهاوسر) مرةً أخرى مدى توافُقِ نظرية وممارسة أصحاب الرقيق مع نظام (تايلور) للإدارة العلمية. وخلال عقدٍ مِن النِّقاشِ الدائرِ حولَ طبيعةِ العبودية الجنوبية، جادل (أوفهاوسر) أنَّ هناك أوجهَ تشابهٍ عميقة، ليس فقط بين أدواتِ المُزارعين وتلك التي يُنادِي بها المدراء العمليُّون، ولكِنْ أيضًا حولَ علاقاتِ القوَّة التي انعكست عليهم.
على الرَّغم مِن هذا البحثِ وغيره، فإنَّ أوجهَ التشابه بين ممارساتِ إدارة الأعمال الحالية والعبودية قد تمَّ إهمالها باستمرارٍ في المناقشاتِ السائدة حولَ تاريخِ المؤسَّسة الأمريكية. لدرجة أنَّه في عام 2003، جادل أستاذ الإدارة (بيل كوك) بأنَّ فَشَلَ علماءِ الإدارة في حسابِ هذا التاريخ كان بمنزلةِ “إنكار”. كما كتب (كوك) أنَّ المعلوماتِ حولَ ممارساتِ تجارة الرَّقيق كانت مُتاحَة على نطاقٍ واسع في المصادر المنشورة، وبالتالي تمَّ التغاضي عنها عَمْدًا.
وفي بعضِ الاحيان، يُمكِن قراءةُ الدليلِ على العبودية حرفيًا بين السطور. فخُذْ مثلًا نموذج (جانت)، الذي يتوافق نظامُ مهمته ومكافأته عن كَثبٍ مع النظام المُستَخْدَم مِن قِبَل بعض مُلَّاك العبيد. إذ ما يزال (جانت) يُبرِز في بعضِ الأحيان في كتبِ الإدارة الحديثة ومواقع الإنترنت.
وفي عبارةٍ تمَّ نقْلُها بشكلٍ مُتكرِّر لدرجة أنَّه مِن الصعبِ التأكُّد مِن مؤلِّفها الأصلي، يُقال إنَّ (جانت) قد وُلِدَ لعائلةٍ مِن المزارعين المزدهرين في ولاية (ماريلاند)، ولكِن “اتسمَّت سنواتُ عيشِه الأولى ببعضِ الحِرمان باعتبار أنَّ الحربِ الأهلية جَلبَتْ تغييراتٍ على ثروات العائلة. وهذه التغييرات التي يَسهُل الوصول إليها، كانت ناجمةً عن هروبِ أكثر مِن ستِّين شخصًا مُستعبَدًا فرُّوا مِن مزرعةِ العائلة وحصلوا على حرِّيتهم. أما إرث العبوديّة -ففي نفس الوقت- تمَّ الإقرارُ به ومحوه”.
إنَّ تاريخَ الأعمالِ التجارية لرقِّ المزارع هي قصةٌ تحذيرية لما يُمكِن أنْ يبدوَ عليه السعي وراء الربح عندما يكون كلُّ شيء، بما في ذلك الأرواح، مَعروضًا للبيع!
إنَّ تجاوز الإنكارِ لا يتطلَّب فقط الاعتراف بأنَّ أصحابِ الرقيق مارسوا نوعًا مِن الإدارة العلمية؛ ولكِن أيضًا إعادة التفكير بشكلٍ أوسع في الافتراضات الراسخة حولَ العلاقة بين الرأسماليةِ وسيطرةِ أصحابِ الرَّقيق رغم وجود العديد من الاستثناءات، إلا أنَّ تاريخَ ممارسات الأعمال التجارية -على الأقلِّ تلك الممارسات التي تصل إلى الجمهور العام- تميلُ إلى أنْ تكونَ قصصَ نجاحٍ فردية واجتماعية، كما أنهم يروون قصصًا مُربِحَة لكلا الطرفين؛ إذ يستفيد رجال الأعمال مِن الأرباح ويستفيد العملاء والعمَّال والمجتمعات على طول الطريق. وبالطبع قد يكون هذا صحيحًا؛ فالتحوُّل مِن رؤية التجارة كمجموعٍ صفري إلى مجموعٍ مُوجَب كان أحدُ أهمِّ التحوُّلات التي تُعزِّز صعود الرأسمالية. لكن الرأسمالية لا تجعل هذا الأمر المُربِح للطرفين أمرًا مَحتومًا. فتزايد حجمُ الكعكة لا يَجلب أي ضمانٍ حول كيفية تقسيمها! فتقاسُم المكافآت يَعتمِد على كيفيةِ كتابة القواعد واختلاف أوضاعها وعلى كيفيةِ تنظيم الأسواق. ويوضِّح الرِّق كيف تمكَّنت مجموعةٌ واحدة مِن القواعد مِن تمكينِ الإدارة المُتقَنَة، وكيف أنَّ كفاءاتها اقترنت بتكاليفَ مُرعِبَة، وتوضِّح العبودية أيضًا كيف أنَّ أنواعًا معينة مِن التوسُّع في السوق -ممَّا يؤدِّي بالبشر إلى أنْ يكونوا مُستعبَدين تحت العمل ومُعرَّضين للبيع- يُمكِن أنْ يَنتُج عنه نوعٌ من عدم المساواة المُتطرِّفة. ويُمكِن للنمو الاقتصادي أنْ يُصاحِبَ التوسُّع في الحرِّيات والفُرَص. ولكِن، كما في حالة العبودية، فالتوسُّع في حرية السوقِ لصالح عددٍ من الأفراد يَعتمِد على تقييدِ كلِّ أنواعِ الحريات للآخرين؛ فالنّمو الاقتصادي قد يكون مصاحبًا للاختيار ولكنَّه أيضًا قد يُبنَى على العنف والظلم.
إنَّ هناك أنواعًا معينة مِن الإدارة تزدهر عندما يتمتَّع المدراء بمستوى عالٍ جدًّا مِن التحكُّم في عمالهم. ويجب أنْ يُنظَر إلى صعودِ الإدارة العلمية في أواخر القرن التاسع عشر على أنَّه لحظة مِن الازدهار وعلى أنَّه عودة لظهور أساليبِ التحكُّم القديمة.
فمع إغلاقِ الحدود، كانت فرصُ العمَّال أقلَّ لمغادرةِ المصنع للعودة إلى أراضيهم. ومع الهجرةِ وازديادِ عدم المساواة، تمتَّع المُصنِّعون بالوصول إلى وَفرةٍ من العمالة. إنَّ عصرَ الثقة والاحتكار محدودٌ بالخيارات الخارجية، والتواطؤ يعني أنَّه حتى عندما يتمكَّن العمال مِن الذهاب إلى مكانٍ آخر مِن الناحية القانونية، فإنَّ الظروف لم تكُنْ في صالِحِهم. وفي مِثلِ هذه الظروف فقط، كان مِن المنطقي أنْ يحاولَ المدراء مثل (تايلور) حساب “ما مقدارُ قوةِ الحصان مقابل قوةِ الرَّجُل الحقيقية!”، مع توقُّع أنَّ هذا الحدَّ الأقصى لمعدَّل العمل يُمكِن الحصول عليه عن طريق أجرٍ بالساعة، أو ربَّما أجرٍ بالإضافة إلى “مكافأة”.
وغالبًا ما تؤكِّد الروايات الحديثة عن التطوُّر الرأسمالي على النتائج الإيجابية للعديد مِن الخياراتِ الفردية، وتقترِح تلك الروايات أنَّ القراراتِ الحرَّة، وحتى الأنانية، تُصاحِب النمو والازدهار. وغالبًا ما يَفترضون أنَّ الثروة الهائلة المُتراكِمَة مِن قِبَل عدد قليل مِن الأفراد ترافق ظروف محسَّنة للكثيرين.
وتاريخ عبودية الرأسمالية يُحذِّر مِن كلِّ هذه التوقُّعات ويُظهِر كتابي الجديد “محاسبة العبودية”، بالإضافة إلى أعمالِ بعض المؤرِّخين مثل (دينا رامي بيري) و(كالفن شيرمرهورن)، أنَّ العبودية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كانت قابلةً للتكيُّف بدرجةٍ كبيرة مع السعي لتحقيق الرِّبح. وقد ازدهرت الأسواقُ الحرَّة لأصحاب الرقيق، وسيطرتهم على الرِّجال والنساء والأطفال قد سرَّعت من الإنتاج، مِن خلال رَفْعِ وتيرةِ العمل ونقلِها إلى تربةٍ جديدة أكثر خصوبة. وتَلاعُبُ أصحابِ الرقيقِ برأسِ المال البشري ضاعف في تكوين ثروات هائلة -سواء مِن خلالِ المُناوَرَة المالية أو من خلالِ التكاثر البشري. وعندما احتفلت جامعة (هارفارد بيزنس ريفيو) بالذكرى السنويَّة التسعين لتأسيسِها في عام 2012، قدّم (تايلور) في مقالاتٍ ثلاثة مُميَّزة، نقطةً مرجعيةً مُلهِمَة لقدرة المدراء على صُنعِ اقتصادٍ واسع. إلَّا أنَّ سجلَّ الأعمالِ الخاص بالعبودية في المزارع يقدّم نقطة مرجعية مختلفة تمامًا، وهي قصةٌ تحذيرية تُقدِّم لنا كيف يُمكِن أنْ يكونَ السعي وراء الأرباح عندما يكون كلُّ شيءٍ -بما في ذلك الأرواح- معروضًا للبيع. ويتضمَّن تاريخُ الأعمال الأمريكية قصصًا عدَّة عن الازدهار وقصصًا عن العنف الشديد أيضًا. وفي كثيرٍ من الأحيان يتشابك ذلك بعُمْق! وقد كان هذا صحيحًا بالنسبةِ لأساليب معيّنة انتهجتها الإدارة العلمية، كما لا يُمكِن إنكاره بسبب عبودية المزارع. ويُمكِن أنْ يساعدَنا استعراضُ هذه التواريخ المُزعِجَة على رؤيةِ الروابط العميقة بين الرأسمالية ونظام السيطرة، وربما حتى لإيجاد طريقة أكثر إنسانية للمُضيّ قُدُمًا.
المصدر : How Slavery Inspired Modern Business Management