الدينالعلمعام

فقه النفس (6)

(6) إن من البيان لسحرا

أ.د. عبدالله بن حمد السكاكر

(6) إن من البيان لسحرا

(1)

للفصاحة والبلاغة تأثير عجيب على النفوس، فإنها تأسر القلوب، وتفعل فيها فعل السحر ولذا قال ﷺ: «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْراً» [1] ، وقد يلحن الفصيح بحجة داحضة، ويزوِّق الباطلَ فيلتبس على أكثر الناس ذكاء، وحصافة، وهذا رسول الله ﷺ يقول: «إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَىَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِى لَهُ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ مِنْهُ فَمَنْ قَطَعْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلاَ يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ بِهِ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ»[2].

والفقهاء، وأهل العلم كغيرهم فيهم البلغاء والفصحاء الذين يأسرون سامعيهم، ويقيمون حجتهم على مايرونه حقا بما آتاهم الله من الفصاحة والبيان، قيل للإمام مالك رحمه الله: هل رأيت أبا حنيفة؟ قال: نعم، رأيت رجلا لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهبا، لقام بحجته [3]

وقال يونس بن عبد الأعلى: ما كان الشافعي إلا ساحرا، ما كنا ندري ما يقول إذا قعدنا حوله، كأن ألفاظه سكر، وكان قد أوتي عذوبة منطق، وحسن بلاغة، وفرط ذكاء، وسيلان ذهن، وكمال فصاحة، وحضور حجة.[4]

وقال الشافعي للمزني: هذا لو ناظره الشيطان، قطعه وجدله.[5]

وممن هو على هذه الشاكلة الإمام أبو محمد بن حزم، وشيخ الإسلام ابن تيمية، والحافظ ابن القيم وخلق من أهل العلم رحمهم الله جميعا.

 ومن أهل العلم من تكون له جاذبية عظيمة حال حياته، فقوته العلمية ومكانته الاجتماعية والوظيفية وقدرته البيانية مع كبر السن إن كان كبيرا والهيئة العامة، وما يضعه الله له من القبول والمحبة كل ذلك يصنع للعالم جاذبية وسحرا يجتاح طلابه ويؤثر فيهم

والمقصود من هذه الوقفة أن مِنْ نُصحِ طالب الفقه لنفسه أن لا يسلمها لسحر البيان وعذوبة المنطق، ولا لقوة الشخصية وهيبة العالم، فإن نفس الفقيه لا يصح أن تذعن لغير الدليل، ولا تنساق إلا للحق، والله سبحانه وتعالى لم يختصر الأمة في أحد من أهل العلم، فكل يصيب ويخطي، وما من أحد إلا يؤخذ من قوله ويرد إلا محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، وعلى طالب العلم أن ينظر في الأدلة بعيدا عن أصحابها، وأن لا يتعصب لأحد سوى الحق

ومتى انبهر طالب الفقه بلغة فقيه أو حجته أو قوة شخصيته حتى دار في فلك اختياراته وغفل عن مواطن خطئه فقد أطفأ مصباح الفقه في قلبه، وقضى بتعطيل ملكته، 

ومع التسليم بأن حفظ فقه عالم من العلماء وإفتاء الناس بأقواله، وردَّ الناس إلى علمه محمدةٌ ومنقبةٌ لمن كان هذا حدَّ قُدرته وهِمته إلا أنه منقصة لمن علت همته وتفجرت قريحته

وَلم أرَ في عُيُوبِ النّاسِ عيباً كَنَقصِ القادِرِينَ على التّمَامِ [6]

وليس المقصود ألَّا يحفظ طالب العلم لأهل العلم حقوقهم وأقدارهم، وإنما المقصود أن يجلهم ويعظم قدرهم ويحفظ لهم ما أنزلهم الله من الفضل والقدر، ومع ذلك يرد أخطاءهم، ويناقش ما يقبل المناقشة من كلامهم على حد قول ابن القيم رحمه الله تعالى بعد أن ساق كلاما لأبي إسماعيل الهروي: شيخ الإسلام حبيب إلينا والحق أحب إلينا منه وكل من عدا المعصوم فمأخوذ من قوله ومتروك ونحن نحمل كلامه على أحسن محامله ثم نبين ما فيه .[7]

وكان الشيخ عبد العزيز بن باز لا يملك نفسه من البكاء إذا تكلم عن شيخه الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، ولم يمنعه ذلك من مخالفته في حياته في مسائل رأى أن الحق بخلافه فرحمة الله على تلك النفوس الزكية والأرواح النقية التي جمعت بين تعظيم أهل الفضل والانقياد للحق.

(2)

قال في الروض المربع في أدب القاضي:
«و(يجب) أن يعدل بين الخصمين في لحظه، ولفظه، ومجلسه، ودخولهما عليه» ا.هـ [8]

والذي ينبغي أن يستحضره طالب العلم دائما أن الفقيه في نظره بين الأقوال الفقهية، وكل طالب علم في نظره بين الأقوال بمنزلة القاضي في نظره بين الخصوم، فالفقيه مأمور أن يعدل بين الأقوال في لحظه وسمعه وعقله، فيعطي كل قول حقه كاملًا في الإدلاء بحجته، والرد على حجج خصمه، ويجب أن يُرْعِيَ له سمعه وعقله، ويمكنه من قلبه، ليكون في نظره عادلًا متوازنًا، وحين تنظر إلى الفقهاء الكبار كابن القيم رحمه الله وهو يسوق الخلاف، ويورد الأدلة، تجد أنه يستوفي أدلة القول المرجوح، ويستوعب شبهه، ويأتي على مناقشاته للقول الراجح حتى لكأنه سيرجحه، وحتى إنك لتظن أنه من متعصبة هذا المذهب، وهذا دأب الفقهاء الكبار، الذين لا يخافون إيرادَ أدلة القول المرجوح، لقدرتهم على مناقشتها، ولتحررهم من ربقة التعصب، فأيَّ قول رأو رجحان أدلته رجحوه، فليس في أعناقهم بيعة لمذهب أو فقيه، إنما بايعوا الحق، وتعصبوا له، فأنى وجدوه رفعوا لواءه .

ومن معينات الفقيه على حسن الصنعة الفقهية أن يضع الفقيهَ نفسَه موضعَ المستفتي على كل قول من أقوال أهل العلم في المسألة، ليعلم مدى واقعية هذا القول وإمكانية تطبيقه، وعلى آثاره المترتبة عليه فإن بعض أقوال الفقهاء لا وجود لها إلا في الذهن، بل في ذهن أصحابها فحسب، وربما كانت واقعية في وقت ومتعذرة التطبيق في وقت آخر، وربما كانت هذه الفتاوى ذريعة إلى مفاسد جاء الشرع بسد ذرائعها.

فلو استفتاه رجل يريد التوبة وقد جمع من الربا أموالا طائلة، هل يلزمه الخروج منها لصحة توبته أو لا؟

فمن حسن الفقه أن يتصور الفقيهُ أنه هو السائل، وأنه بدأ تجارته برأسمالٍ يسير وهو اليوم يملك أضعافه آلاف المرات كسبها بطريق الربا ويريد التوبة، ما حاله لو أفتاه بوجوب التخلص مما زاد عن رأس المال؟ أتراه يقوى على التنفيذ؟ هل ينكص عن التوبة؟ هل لو نكص عن التوبة بسبب هذه الفتوى فلن يُسأل الفقيه بين يدي الله عز وجل عن هذه الفتوى؟ ما حاله لو أفتاه الفقيه بأن له ما سلف وليس عليه التخلص من هذا المال؟ 

ومثال آخر لو سألته امرأة قدمت من اندونيسيا للعمل في السعودية أيجوز أن تحج الفريضة بلا محرم مع جمع من النساء الثقات؟ 

على الفقيه أن يتصور نفسه محل هذه المستفتية لو أفتاها بجواز الحج في هذه الحال فسيكلفها الحج مبلغا يسيرا وستحج في نفس السنة، بينما لو أفتاها بالمنع حتى ترجع إلى بلدها وتأتي مع محرمها فستتضاعف تكلفة الحج ربما إلى عشرة أضعاف، وربما ماتت قبل أن تحالفها القرعة حيث تدخل المنافسة مع مائة مليون أو يزيدون .

وليس المقصود أن يُشرعِنُ الفقيهُ أخطاء الناس وإنما أن يفرق في النظر بين أمر وقع وأمر لم يقع.


(1)  أخرجه البخاري في صحيحه .
(2)  متفق عليه من حديث أم سلمة رضي الله عنها واللفظ لمسلم .
(3)  سير أعلام النبلاء عند ترجمة الإمام أبي حنيفة رحمه الله .
(4)  سير أعلام النبلاء عند ترجمة الإمام الشافعي رحمه الله .
(5)  سير أعلام النبلاء عند ترجمة الإمام الشافعي رحمه الله .
(6) أبو الطيب المتنبي .
(7)  مدارج السالكين عند الحديث عن منزلة الرجاء .
(8)  الروض المربع بحاشية ابن قاسم الطبعة الثانية 1403هـ 7/526 .

اطلع على المقالة السابقة : فقه النفس (5)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى