أ.د. عبدالله بن حمد السكاكر
(5) بين جُبنين
قال ابن قدامة فيمن جامع ناسيًا وهو صائم: وروى أبو داود، عن أحمد، أنه توقف عن الجواب، وقال: «أجبن أن أقول فيه شيئا، وأن أقول ليس عليه شيء». قال: «سمعته غير مرة لا ينفذ له فيه قول». [1]
وقد نُقل عن الإمام أحمد وغيره من أئمة السلف عشرات المسائل يجبنون فيها عن الفتوى، وهي صور ناصعة للجبن المحمود حيث لا يتبين للفقيه حكم الله سبحانه وتعالى في المسألة، إما قبل البحث أو بعده، وذلك استجابة لقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } [سورة الأعراف:33]، ولما روى الدارمي (سنن الدارمي باب الفتيا وما فيه من الشدة (157)) عن عبيد الله بن أبي جعفر قال: قال رسول الله ﷺ: «أجرأكم على الفتيا أجرأكم على النار» [2] ، وفي آداب الفتوى وخطورة القول على الله بغير علم أُلفت عشرات الكتب مفردة أو في ضمن كتب أخرى تتضمن نصوصا من القرآن والسنة، وكلمات نورانية لسادات السلف تحذر من القول على الله بغير علم، ومن الجرأة على الفتوى دون أن يتبين للفقيه حكم الله سبحانه وتعالى
وفي مقابل هذه الصورة المشعة صورة أخرى لفقيه يتبين له حكم الله تعالى في المسألة ثم يجبن عن القول به، وربما أفتى بغيره، مجاملة لمذهب أو شيخ، أو مداراتً لجهة رسمية أو غير رسمية، أو استبقاء لود أناس لم يألفوا هذا القول وربما أنكروه، أو فهما خاطئا للورع وأنه التشديد والاحتياط في الفتوى، وهنا تندرس معالم الفقه ويذهب بهاؤه، وربما حُرم الفقيه بركة العلم بسبب مخالفته ما يعتقده حكمَ الله سبحانه وتعالى في المسألة لحظ من حظوظ الدنيا، قال الثوري رحمه الله: «الفقه هو الرخصة عن ثقة.. أما التشديد فيحسنه كل أحد».
وقال الذهبي رحمه الله عند ترجمة الإمام مالك بن أنس رحمه الله: «ولا ريب أن كل من أنس من نفسه فقهًا وسعة علم، وحسن قصد، فلا يسعه الالتزام بمذهب واحد في كل أقواله، لأنه قد تبرهن له مذهب الغير في مسائل، ولاح له الدليل، وقامت عليه الحجة، فلا يقلد فيها إمامه، بل يعمل بما تبرهن، ويقلد الإمام الآخر بالبرهان، لا بالتشهي والغرض» ا.هـ [3]
وليس المقصود التشجيع على المجازفات الفقهية، أو التحريض على مخالفة ما عليه الجمهور أو المستقر السائد في المجتمعٍ حبا للظهور، أو التفرد دون ظهور الدليل والحجة، فإن الفقيه موقوف بين يدي الله سبحانه وتعالى. الذي لا تخفى عليه خافية، وإنما المقصود ألَّا يمتنع الفقيهُ من أن يقول ما يعتقده حكمَ اللهِ سبحانه وتعالى في المسألة لحظ من الحظوظ، رغبًا أو رهبًا.
ولم يزل الفقهاء الحقيقيون في عنت وعناء من المتفقهة الذين لا يرون لأحد من أهل العلم خروجًا عما ألفوه وورثوه عن مشايخهم وكتب مذاهبهم، وأفتوا به أتباعهم، وليس عندهم من الملكات ما يُسيغون به فتاوى الفقهاء المتحررين من ربقة التمذهب، والمتجردين للدليل في حرية علمية لا يقطعها سائد أو معهود أو سلطة مذهب من المذاهب، فتراهم يرون في هذه الاجتهادات تشويشًا على الناس إن كانت أشد مما ألفوه، وإفسادًا للدين إن كانت أسهل مما عهدوه، وحينئذ يبدأ مسلسل التصدي لهؤلاء الفقهاء وثنيهم عما ذهبوا إليه من اجتهادات بالنقاشات المباشرة والردود، ثم بإغراء أتباعهم من الغوغاء وصغار الطلاب، ثم بتحذير الناس منهم واستعداء كبار العلماء والسلطة عليهم، والسعي في حرمانهم من حقوقهم في الولايات والمناصب الدينية، وربما تطور الأمر إلى ما هو أعظم من ذلك كإغراء السلطان بسجنهم خوفًا من إفسادهم لدين الناس، وربما أفتوا بقتلهم كما أفتى بعض الفقهاء بقتل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
قال سفيان الثوري رحمه الله تعالى: «إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَنَا الرُّخْصَةُ مِنْ ثِقَةٍ، فَأَمَّا التَّشْدِيدُ فَيُحْسِنُهُ كُلُّ أَحَدٍ» [4]
لا يكاد يوجد حكم فيه رخصة أو تيسير إلا ويعتوره سبب للتشديد وإن من طرف خفي واحتمال مرجوح، ولو شدد المفتي لكل احتمال لكان الدين آصارًا وأغلالًا، وإنما الفقه النظر في خير الخيرين وشر الشرين، أما تمييز الخير من الشر فيحسنه من لم يشم للفقه رائحة، وأخطر من التشديد لكل شبهة وصف التشديد بالورع ومتانة الدين فإن هذا من التلبيس، وإذا كان التشديد لكل شبهة ليس من الفقه فإن التسهيل من غير الثقة ليس فقها وإنما هو هوى وقلة دين، ورحم الله رجلا وعى عن الله مراده فأفتى أو التبس عليه أمر الله فأمسك.
[1] المغني بتحقيق الشيخين: التركي والحلو (4/374).
[2] سنن الدارمي باب الفتيا وما فيه من الشدة (157) قال المحقق: إسناده معضل.
[3] سير أعلام النبلاء عند ترجمة الإمام مالك بن أنس رحمه الله .
[4] قوت القلوب لأبي طالب المكي ت 386هـ تحقيق د. عاصم إبراهيم الكيالي الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت / لبنان الطبعة: الثانية، 1426 هـ -2005 م 1/236، حلية الأولياء لأبي نعيم ت430هـ، نشر دار السعادة مصر 1394هـ 6/367، جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر ت 463هـ تحقيق: أبي الأشبال الزهيري الناشر: دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية الطبعة: الأولى، 1414 هـ – 1994 م 1 /784 (1467) .
اطلع على المقالة السابقة : فقه النفس (4)



