- تأليف : عبد الله الشهري
- جمعها ونسقها: ك. ي.
مشكلة عويصة يعاني منها كثير من الباحثين والطلبة والمشتغلين بالمعرفة عمومًا، وهي مشكلة الشعور بضياع البوصلة والتبدد في عوالم المعرفة.
وقد داهمتني قبل سنوات وجهدت لحلها، فبذلت ما استطعت ونجحت بفضل من الله، وما زالت تطل برأسها! الشيء بالشيء يذكر، يذكر المسيري عن نفسه أنه ابتلي بـ “الذئب الهيجلي المعلوماتي”، وهي الرغبة العارمة في طي المعارف طيًا كليًا ومعالجتها معالجة تفصيلية تأتي على آخرها. والموضوع الذي بين أيدينا قريب من هذه “النعرة المعرفية” المؤذية، كل بحسبه.
بدأت القصة بالنسبة لي في سنوات البكالوريوس حين وجدت نفسي مهتمًا مولعًا بالتعلم والمعرفة، وكانت أكثر قراءاتي في التخصص (علم اللسانيات التطبيقية) إضافة إلى علوم الشريعة، خاصة علم العقيدة. أما المشكلة فبدأت تحديدًا من التخصص الجامعي آنذاك.
طبيعة اللسانيات التطبيقية أنها متصلة بأكثر من حقل، (علم النفس، الأنثروبولوجيا، علم اللغة العام، علم الاجتماع، علم الأعصاب، نظرية التطور، الخ) وهذا فتح عيني على أكوان من المعرفة كل منها يجرني إليها بقوى متفاوتة، قوة وضعفاً، وضحالة وعمقًا.
وكما يقال انفتحت شهيتي أكثر فأكثر للتحصيل من هنا وهناك، وأيضًا ثارت عندي أسئلة كثيرة، كل واحد منها وددت لو بحثته مستقلاً، ولكن هيهات، وهكذا تحولت الزاوية المعرفية من الحادة إلى المنفرجة حتى أصبحت أقرأ في فلسفة اللغة والعقل وفلسفة العلم؛ للأسباب السابقة ولتمكني من اللغة الإنجليزية أما خارج أسوار الجامعة فكنت أقرأ كثيرًا في علم العقيدة واستمتع بذلك، ولكن مع مرور الوقت تبين أنه بحر كبير، إذ كان علي أن أتعرف على علم الكلام، ثم سحبني هذا بدوره لتعلم أصول الفقه لما لاحظته من التشابك بينهما حينها، فانكببت كثيرًا على علم أصول الفقه، وهو لوحده بحر واسع.
واصلت هذا “الشعث المعرفي” بعد التخرج، ولما كنت في نوتنغهام أحضر الماجستير في التخصص، وجدت مكتبة الجامعة وما أدراك ما مكتبة الجامعة هناك!
فانكببت على قراءات لا حصر لها استغلالاً لوجودي هناك، حتى قرأت كثيرًا من الكتب الإنجليزية قبل أن تترجم إلى العربية، وكاد ذلك يضر بدراستي رغم أنها كانت رسالة مميزة ولله الحمد أوصى المشرف بنشرها بتحريره (وقد نشرت).
هناك في نوتنغهام بلغت المشكلة ذورتها ومن هناك بدأ الحل. بدأ الحل حين سألت نفسي سؤالاً صغيرًا مركبًا، لكنه غير مجرى تعاملي مع العلم، وهو: من أنت وماذا تريد يا عبد الله ؟
مكثتُ قرابة الشهر أحاول الإجابة بوضوح عن ذلك السؤال.
تمثل الإشكال بشكل دقيق في امتلاكي لحصيلة كبيرة من المعارف – وفوق كل ذي علم عليم – ولكن السؤال الملح الذي ما فتىء يراودني هو: ثم ماذا ؟!
بدأت الزواية المعرفية المنفرجة تتقلص في شعوري بمجرد أن تفهمت أهمية ذلك السؤال.
أخذ السؤال يأتيني بعبارات مختلفة:
ألك رسالة؟
أم هي المتعة المعرفية فقط؟
وبالمناسبة المتعة المعرفية هدف إذا رغبتَ أنت في ذلك! ومن تلك اللحظة أصبحت أراجع خط زمني في الماضي، وأتساءل عن هويتي ووجهتي.
تفكرت في أسمى وأشرف غاية – لمن يؤمنون بوجود شيء مثل هذا ! – يمكن أن أُخضِع لها كل ما تعلمته، نعم كل ما تعلمته بأصوله وفروعه، فلم أجد أسمى وأشرف من أسخّر هذه الحصيلة، وما سأحصله – إن أمد الله في العمر وشاء – لخدمة قضية واحدة فقط ألا وهي رؤيتي للحياة كمُسلمٍ سُنّي.
وبقطع النظر الآن عن مشروعية هذه الغاية، وما إن كانت تروق لفلان أو علان، المحك هنا هو استجماع قواك للترقي لأعلى مستوى منطقي، تلتقي عنده خيوط سعيك في هذه الحياة، خاصة سعيك المعرفي، وغالبًا – إن كنت مصابًا بالأرق المعرفي – ستجد ذلك المستوى الحاكم قابعًا هناك بعيدًا في محاجر لا وعيك.
وحين تزيح الستار عنه شيئًا فشيئًا -بالتفحص الباطني الصادق introspection – ستجد نفسك تلقائيًا قد أجابت عن سؤال: من أنا؟
لأنك إن عرفت نفسك – وأنت لست اسمك فقط، أنت أكثر من اسمك – فالفرصة باتت مهيأة لك أن تجيب عن السؤال الآخر المهم: ماذا أريد في هذه الحياة؟
وعودًا على القضية التي انفتح عليها وعيي – رؤيتي كمسلم سنّي للحياة – ،لا يحسبن البعض أن المسألة مسألة مواعظ دينية، كالتي تلقى بواسطة مكبرات الصوت في المساجد، أو دروس شرعية تقليدية – على أهميتها ولكن في سياقها – وإنما مسألة الاجتهاد لتطويع هذه الترسانة من المعارف؛ لإحقاق ما أراه حقًا كمسلم.
كنت أقول لنفسي دائمًا:
أيعقل ألا يكون للمسلم كلمة معتبرة، في هذا الفضاء المعرفي الذي تلاطمت فيه أفكار الشرق والغرب؟
لماذا يخجل بعض المنتسبين إلى الإسلام من إحضار هويتهم الأهم، – على افتراض أنهم يُقرون بذلك ! – في المشهد الفكري/العلمي/المعرفي المشاع بين الناس على هذه الأرض؟
مجددًا لا أقصد إطلاقًا تلك الصورة النمطية السائدة، التي تذكرك بـ “كورنر سبيكر” في الهايد بارك – ولا أحتقرها بالمناسبة -، وإنما الالتحام الواعي بالمعارف وقيادتها برسالتك، التي ارتضيتها لنفسك والمشاركة في إنتاجها برؤيتك كمسلم مؤمن بأن للحق حقيقة، مثلما أن للوهم حقيقة.
كان هذا أهم مُراد، وأنت ستعرف ما تريد حينما تشعر بالاطمئنان إليه اطمئنانًا يجلب السكينة لنفسك، لكن بقي عليّ أن أعرف ماذا أجيد؟ فأحقق ما أريد بما أجيد.
بعد طول تأمل، لم تكن المشكلة مشكلة شك معرفي، أو عجز علمي، وإنما مشكلة “ثمرة”؛ ولذلك كان علي أن أتعرف على ما أجيد. ما أريد هو الوجهة، وما أجيد هو العتاد والزاد المناسب لي أنا شخصيًا – لا المناسب لفلان أو علان – في هذه الوجهة.
لأنك سوف تنكسر وتنهار حين تحاول تحقيق ما تريد بما لا تجيد. اعرف ما تريد واعرف ما تجيد، وما تجيد له مراتب وأولويات سأذكر طريقتي فيها.
لما كان سلوك القراءة هو السلوك المعبر تعبيرًا نموذجيًا عن التحصيل المعرفي، كان علي أن أحدد قراءاتي وفق أولوية معينة، “تصب” في الوجهة التي اخترتها (ما أريد)، و “تصيب” الثمرة التي أنشدها (ما أجيد) وهذا الشكل البسيط إلى حد بعيد طريقة إدارتي لمقروءاتي، وسأشرحه باختصار:
يعبر مستوى القراءات الصلبة – وهو حاد ومركّز كما ترون – عن المجال الذي أجيده.
وما “أجيده” هو ما ” أجد ” نفسي فيه بقوة (مثال: فلسفة العلم، وعلم الاجتماع).
هذا هو المستوى الذي يهمك بالدرجة الأولى، ويتركز فيه تحصيلك، ويجب عليك الإلمام بالمواضيع والمراجع المركزية فيه إلمامًا واسعًا، إلى درجة تؤهلك للتمكن من النقد والاجتهاد والاختيار والترجيح والتمحيص والمشاركة الفاعلة في هذا العلم، أو ذلك الحقل المعرفي.
المستوى الثاني (قراءات الاهتمام): يعبر عما يهمك لصلته القوية بقراءاتك الصلبة، وضبط هذه الصلة على وجه الدقة مما يتعذر، ولكن تقدير ذلك تقديرًا إجماليًا متيسر.
ولكن يجب عليك مراعاة عامل قوة الصلة وملاحظته باستمرار، وهذا يلوح لك مع تقدمك في التمرس العلمي والدربة المعرفية، (بالنسبة لي شخصيًا مثلاً: علم أصول الفقه مهم – استقلالاً عن كونه مهمًا بنفسه للمسلم – في قراءاتي الصلبة في الفلسفة واللسانيات). وأود أن أنبه أن هذه أمثلة تخصني فقط.
المستوى الثالث (قراءات الفضول):
بالتأكيد، وطبعًا، أنت هنا لا تقضي أكثر وقتك، فضلاً عن تركيز أكثر جهدك. ومن المهم أن نعترف بأن ما هو “قراءة صلبة” لشخص ما هو “قراءة اهتمام” لشخص آخر و”قراءة فضول” لشخص ثالث، وهكذا. فالوصف بـ “الصلبة” هنا لا يعني بالضرورة مادة علمية أو فلسفية مثلا.
بالنسبة لي مثلاً تقع القراءات الأدبية العربية عامة والأجنبية خاصة في هذا المستوى الثالث.
أنا لم أقرأ لدوستويفسكي مثلاً – على شهرة أعماله – إلا في وقت متأخر، وليست نادمًا أبدًا على ذلك .
وأقول لك: هكذا ينبغي أن تشعر أنت تجاه ما يقع خارج المستوى الصلب،أو مستوى الاهتمام بالنسبة لك.
أبدأ ما سأختم به بإشارة مهمة لعالم النفس الباحث في التعلم، هوارد غاردنر وهي إشارته إلى العقل المتخصص، والعقل التركيبي المؤديان بدورهما إلى ما يسميه بالعقل الخلاّق.
حين تسلك المسلك الذي وصفته لك في سياق تجربتي الشخصية، فتنتهي إلى ما تريد وتحققه بما تجيد، أستطيع أن أقول أنك بدأت تكوّن (العقل المتخصص)، وهو ضروري لك وللمجتمع معًا. التخصص – أو أن تُعرف بالتخصص في مجال (أو أكثر إن حصل) – هو آيتك الواضحة على أن مشروعك المعرفي سيثمر لك ولغيرك.
وكما ذكرت سابقًا، لا يشترط أن يكون المجال علميًا أو تقنيًا لكي يصدق عليه وصف الـ”تخصص”، المهم أنك وجدتَ ما يُلائمك بالفعل، ولا حاجة إلى شرح الكيفية فقد سبق الحديث عن هذا.
مع الوقت، صقلك للعقل المتخصص، بالتعمق فيما تُريد وبما تجيد سيكسبك (العقل التركيبي).
وهو يعبر عن القدرة على إدارة المعارف المتناثرة والكثيرة، في مجال التخصص إدارة فعالة، فتؤلف بين المهم منها تأليفًا مفيدًا، ولنقل أنه تتطور عندك مهارة ملاحظة الفروق والتشابهات، فملاحظة الفروق يزيد من حدّتك المعرفية، وملاحظة التشابهات تمكنك من تكوين أنماط مستقرة (قواعد أو ضوابط مثلاً).
لكن العقل التركيبي عملية، والمفترض أنه طَور تلقائي يأتي بنفسه عن استحقاق، ما دمت تمضي بشكل صحيح. هذا التلاقح بين العقل المتخصص والتركيبي، وإفضاء الأول للثاني، يصلك بـ (العقل الخلاّق): إنتاج معرفة جديدة ومفيدة، الطرح المبتكر، الإبداع في تطوير فكرة معينة، أو حل مشكلة معينة.
إن (العقل الخلاّق) هو: ذروة المشروع المعرفي للشخص المهموم بقضية المعرفة أيًا كانت، وأهم وسيلة للوصول إليه – بعد عون الله تعالى – هي شغف شخصي دائم الحضور.
طبيعي أن يفتر أحيانًا، لكنه فتور ناشئ عن قوته لا ضعفه، كوتر القوس حين تشده، فإن من طبيعته والحال كذلك أن يرتخي قليلاً ليعمل!
أسأل الله أن يُعين وييسر، وأن يتقبل وينفع.
انتهى.
اقرأ ايضاً: في نقد الأفكار وفحص المعلومات الجديدة
مقال يشحذ الهمم…
ويرتقي بالنفس معرفياً إلى أعلى القِمم…
ويبعث فيها مع الأخذ، (العطاء)
فتُرَشِّد بوصلتك لهدفك المنشود، فلا يتبدد سدًى؛ في هذه الحياء
جزاك الله خيراً، شيخنا الكريم، المِفضال، ونفع بكم
في هذه الحياة *