- تأليف : هبة ماهر 2019-1-12
- تحرير : عائشة السلمي
كثيرً ما يُعزى تقدم الأوروبيين إلى نبذهم الدين وحصرهم إياه في المجال الخاص للأفراد وإقصائه من المجال العام . اشتهرت هذه الفكرة وشاعت بين المسلمين حتى صارت أشبه بالمُسلَّمة التي لا تحتاج إلى تدليل، بل وزُعم أن التمسك بالإسلام هو علة تخلف المسلمين في العصور الحديثة.
هل كانت فعلاً الخطوات التي اتخذتها أوروبا تدريجياً باتجاه تهميش النصرانية – والتي كانت ذروتها إبّان الثورة الفرنسية – هي سبب تقدمها ؟ وهل كان فعلاً سبب فشل محاولات التحديث في الأقطار الإسلامية هو تمسك المسلمين بدينهم ورفضهم اتخاذ العلمانية أساساً لإقامة مجتمعاتهم ؟
في محاولة للإجابة عن هذا السؤال لن نعمَد إلى إبراز الأدلة التاريخية التي تثبت أن الإسلام – والأديان بعامةً – هي من أهم محفزات إقامة الحضارات، أو أن قواعد الشرع هي الضمانة المُثلى لإنشاء مجتمعات عادلة، وإنما سنعمد إلى إبطال هذه المزاعم عن طريق توضيح سبب نجاح التحديث في الغرب وفشل ذات التحديث في الشرق، وبذلك نفسر السبب الحقيقي لهذا الاختلاف.
لا يخفى على قارئ التاريخ الغربي أن النهضة الأوروبية في القرن الثامن عشر قامت بالأساس على أكتاف الطبقة البرجوازية، وهي الطبقة الوسطى التي تتكون من أصحاب الحرف والمهنيين وأهل التجارة، وكان النظام الطبقي هو النظام الاجتماعي والسياسي السائد في المجتمعات الغربية طوال فترة العصور الوسطى وإن لم يتم تعريفه بهذا الوضوح إلا بعد قيام الثورة الفرنسية .
كان الملك ونبلاؤه يتربعون على عرش النظام السياسي، وكان لرجال الدين السيطرة التامة على المجال الاجتماعي. وكان لهؤلاء جميعاً مِلكية جُل أراضي البلاد، ولذا كانوا يُعرفون باسم “السادة الإقطاعين” .
قامت هذه الفئات بالتحالف فيما بينها لتثبيت دعائم نفوذها، والحيلولة دون قيام عامة الشعب بالتمرد على الأوضاع ، فكان رجال الدين يستخدمون تأثيرهم الروحي في تبرير خضوع العامة للأمراء والنبلاء، وفي المقابل كان النبلاء يُعلنون تبعيّتهم وخضوعهم لسلطة القساوسة الدينية ويتركون لهم حريات واسعة .
عانى عامة الشعب من هذا النظام، ولم يكن بمقدور أحد تجاوز هذا النظام الطبقي ، حيث كانت النسبة الغالبة من العوام عبيد أرض لدى الإقطاعيين ، وعبيد الأرض هو النظام الذي خَلَف نظام الرق الصريح الذي كان معمولاً به إبّان الحكم الروماني ، قبل انهيار الإمبراطورية الرومانية الغربية. وفي هذا النظام يكون الرجل تابعاً لأرض معينة بدلاً من أن يكون تابعاً لسيد معين، فإذا آلت ملكية الأرض لسيد آخر انتقل ولاء العبد لسيده الجديد.
وُجد بين الشعب بعض الفئات التي كانت خارج هذا النظام مثل أصحاب المهن، وأهل التجارة ، وذلك لعدم ارتباطهم بالأرض. كما كان حرمان صغار رجال الدين من الامتيازات الهائلة التي تمتّع بها رجال الدين الكبار مع تحصُّلهم على الثقافة والعلم الذي كان حكراً على رجال الكنيسة من مصادر سخطهم على هذه الأوضاع المُجحفة . اطلعت هذه الفئات على أفكار عصر التنوير وتداولتها فيما بينهم ، وكانت رحلات التجار بين الدول المختلفة واحتكاكهم بالحضارة الإسلامية في الأندلس من مصادر ازدياد الوعي لدى الطبقات المثقفة بعامة.
نجحت الثورة الفرنسية في التخلص من نفوذ الإقطاعيين ، وتمكن مثقفو الشعب من الإمساك بزمام الأمور، وأعادوا تشكيل المجتمع وفقاً لرؤاهم الجديدة والتي كانت متداخلة بالطبع مع مصالحهم المادية، ولذا نجد تحولاً في النمط الاقتصادي من اقتصاد ريعي/زراعي إلى اقتصاد تجاري/صناعي، وبذلك فَقَد الإقطاعيون مواطن نفوذهم وقوتهم بالكلية .
قام الغرب بتصدير هذه الثورة إلى مختلف أرجاء العالم ، تارة بالدعاوي وأخرى بالسلاح ، وظهرت في الدول الأخرى طبقات محلية حاولت السيطرة على مقاليد الأمور في هذه المجتمعاتً، والحلول محل الإقطاعيين. سارت هذه الطبقات على خطى الغرب واقتفت أثره ، وبدأت بالفعل الروابط الاجتماعية والنظم السياسية في هذه المجتمعات تتغير تجاه النموذج الغربي.
اختلفت درجة تَشَرُّب المجتمعات لقيم الحداثة وأصولها، وظلت الطبقات الحاكمة تعمل على فرض هذه القيم على شعوبها بهدف تحقيق التقدم والازدهار، والتخلص من آثار العصور الوسطى.
لم تسفر محاولات فرض الحداثة تقدماً ولا ازدهارًا ، بل ظلت البلدان العربية في حالة من التخلف الحضاري والسياسي. ولم يجد دعاة التقدم والتحديث في الدول الإسلامية إلا الإسلام ليرموه بالاتهام ، فزعموا أن الإسلام لا يصلح لهذا العصر، وأن التحديث لن ينجح حتى يتم إقصاء الدين وتبني العلمانية أساساً للمجتمع ، وجعلوا من هذا شرطاً للتقدم.
للأسف يغفل هؤلاء الدعاة عن فروق ملحوظة بين ظروف نشأة وتطور الطبقات البرجوازية في الدول الغربية وبين ظروف نشأة وتطور نفس الطبقات في الدول العربية ، هذه الفروق أدت إلى اختلاف في نمط حكم الطبقات البرجوازية في كلا الحالتين، كما أنها أثرت في طبيعة العلاقة بين الطبقة البرجوازية وبين سائر طبقات المجتمع.
سادت الطبقات الإقطاعية مجتمعات العصور الوسطى سواء في الشرق أو في الغرب، وقد أتى ذلك نتيجة لاعتماد ملوك ذاك الزمان في حروبهم على مجموعة من المحاربين والنبلاء . كانت مهمة هؤلاء النبلاء هي إمداد الملك بجيش عند الحاجة ، وفي مقابل ذلك كان الملك يقطعهم مساحة من الأرض يحكمونها . هذا النظام اللامركزي في الحكم جعل السيد الإقطاعي هو الآمر الناهي في أرضه ، وجعل من جميع قاطني هذه الأرض كالمملوكين لهذا الإقطاعي . ولم تكن هناك سلطة فوق الإقطاعيين إلا الملك ، على الجانب النظري على الأقل.
اعتمد الإقطاعيون – في الغرب – على طبقة رجال الدين لتثبيت دعائم حكمهم فقام في كل مقاطعة تحالف بين السيد الإقطاعي وبين راعي الكنيسة، وعانت الشعوب الغربية من دعم رجال الدين المطلق للحكام . إذ أنه بالإضافة إلى تكريس رجال الدين الرضوخ للإقطاعيين وتبرير عمل الفلاحين بالمجان في أراضي الإقطاعيين وأراضي الكنيسة ، كان على العامة دفع عشوراً للكنائس . أدّتْ هذه الأوضاع إلى تبعية الفلاحين التامة لهذه الطبقات وانعدام قدرتهم على الاستقلال عنها ، فقد كانوا مقيدين بقيديّ السلطة الروحية والسلطة السياسية.
لم ينجُ من مصير الفلاحين هذا إلا أرباب المهن والحرف اليدوية ، والتجار ، حيث كانوا غير تابعين للإقطاعيين بل كانت تبعيتهم للملك مباشرة . سمح لهم هذا الاستقلال بمصدر للدخل منفك عن الإقطاعيين . ازداد ثراء التجار نتيجة لازدهار حركة التجارة مع الشرق وتراكم لديهم النقد، إذ كان غير مسموحاً لهم بتملك الأرض . ومع تنامي ثرائهم ازداد بالتالي نفوذهم ، حيث صارت الضرائب التي تُجمع منهم مصدراً مهماً للخزينة الملكية. أما أصحاب المهن والحِرف اليدوية فإن الإقبال على عملهم زاد خاصة مع احترافهم لبعض الصناعات الأولية التي وصلتهم من الدول الأخرى . نظم أرباب المهن أنفسهم في نقابات مهنية ، ومع الوقت احتدم الصراع بين هذه النقابات وبين السادة الإقطاعيين لرفض رؤساء النقابات الخضوع للإقطاعيين وإصرارهم على تبعيتهم المباشرة للملك . وكما في حالة التجار، كانت ضرائب النقابات من مصادر دخل الخزينة الملكية فرجحت كفة استقلاليتهم.
خلال أحداث الثورة الفرنسية نشأت من بين هذه الفئات قيادة جماهيرية طالبت بتطبيق ما نادى به مفكرو عصر التنوير، فطالبوا بالحرية وبالمساوة ، وما لبث أن دعوا لقيام جمهورية يكون الحكم فيها على أساس من الكفاءة وليس بالوراثة . نشرت فرنسا أفكارها بين سائر الدول الأوروبية خلال الحروب النابليونية ، ولم يطل الزمن إلا وقد تبنّت جُل الدول الأوروبية أفكار الثورة الفرنسية واعتبرتها أُسساً للحداثة .
مما سبق يتضح بجلاء أن الطبقة البرجوازية لم تنشأ من رحم الطبقة الإقطاعية ، بل تكونت كبديل لها ، ولذا سعت الطبقة الجديدة في مد جسور تعاون بينها وبين عامة الشعب . ومنذ البدء كان الشعب هو الداعم الأساسي للطبقة الجديدة الحاكمة ، ولذا نرى أنه خلال مقاومة ملك فرنسا ونبلاؤه للثورة ، عمد دعاة الثورة إلى المناداة بتكوين جيش شعبي للدفاع عن ثورتهم في مواجهة جيش الملك، ولاقت هذه الدعوة استجابة واسعة من الشعب.
ظل دأب الجمهوريين اللجوء إلى شعوبهم لمواجهة أي خطر يتهددهم ولذا بقي هدف استرضاء هذه الشعوب مهما للطبقات الحاكمة في الغرب . هذا الأمر نلاحظه في حفاظ الحكومات – في المجمل – على قيم العدالة والحرية.
أما في الشرق فكانت الأوضاع مختلفة إلى حد ما، حيث لم يقم الشرق بثورة حقيقية ضد الطبقات الإقطاعية، كما لم يقم تحالف بهذه الصورة بين المشايخ وبين الإقطاعيين. وظل النظام الاقتصادي بالأساس ريعي زراعي إلى أن جاء الاستعمار الغربي إلى الشرق فقام في البداية بالاعتماد على الطبقة الإقطاعية في إمداده بالمواد الخام اللازمة لصناعاته ، وكان هذا بداية تحول في النمط الاقتصادي حيث لم يعد ريع الأرض مهماً لملاك الأرض مما أدى إلى تضاؤل طبقة مؤجري الأرض . ومؤجرو الأرض هم من الفلاحين الميسورين الذين كان لديهم من المال ما يسمح لهم بتأجير قطعة صغيرة من الأرض وزراعتها لصالحهم مع إعطاء أجرة محددة للإقطاعي .
في المرحلة التالية ، أنشأ المستعمرون بعض الصناعات الأولية للإفادة من الأيدي العاملة غير المكلفة . وكان الكثير من الفلاحين قد سرحوا من الأرض بعد تفضيل أصحاب الأراضي إنشاء المصانع.
نرى هنا كيف أن تحول الطبقة الإقطاعية لطبقة برجوازية أتى برعاية غربية ، وأن الطبقة البرجوازية الجديدة ولدت من رحم طبقة الإقطاعيين السابقين. وكانت العلاقات التعاونية بين هذه الطبقة الناشئة وبين البلاد الغربية واضحاً ، مما لم يفسح مجالاً لالتفاف شعبي حقيقي حول هذه الطبقة ، بل ظلت في نظر الكثيرين طبقة خائنة . كان من نتيجة ذلك أن عمد برجوازيو الشرق إلى الاستعانة بالمستعمرين الغربيين لتكريس حكمهم ، وفي المقابل كان ولاؤهم للمستعمرين وليس للشعوب . هذا يفسر تقييد الحريات الذي مارسته الطبقات الحاكمة آنذاك مما لم يتح مجالاً لنهضة حقيقية ، بل كانت الدول الشرقية مصدراً للمواد الخام والعمالة الرخيصة فقط، ولم تتمتع شعوبها بأي عدالة أو مساواة، الأمر الذي فاقم العداء بين الحكام والمحكومين مما جعل البلاد باحات صراع لا مجال للتعاون فيما بين أطرافها.
هناك فارق آخر مهم وهو الفارق في طبيعة الأفكار التي كانت سائدة في ذاك الزمان بين الشرق والغرب.
انتمى معظم المفكرين المصلحين لعامة الشعب، وهذا جعلهم على دراية بمشكلاته وبالظلم والإجحاف الذي يواجهه ، وقد تطورت أفكارهم كاستجابة لتحديات مجتمعاتهم ، وكانت موجهة لمعالجة أوضاع هذه المجتمعات ، وتصحيح مسيرتها . كما أن الأفكار ظلت متداولة لفترة طويلة قبل قيام الثورة الفرنسية مما أكسبها شعبية كبيرة ، خاصة أنها كانت نابعة من بين الشعب .
بعد قيام الثورة لم تحتج الطبقة الحاكمة الجديدة إلى فرض هذه الأفكار بالقوة على شعوبها ، بل تلقفت الشعوب هذه الأفكار بالترحيب إذ كان فيه علاجاً لاستبداد ومظالم طالما عانوا منها.
أما في البلاد العربية فأتت هذه الأفكار دخيلة على المجتمعات غير ملائمة لها ، بل إنها لم تنتشر إلا بسبب الروح الإنهزامية التي سادت بين الشرقيين إثر ما رأوه من تفوق عسكري للغربيين ، أو بفعل فرضها بالقوة من قبل الحكام سعيا في تحقيق تقدم حضاري مماثل للغرب.
لم تشعر الشعوب العربية أن هذه الإصلاحات التي تبناها حكامهم فيها علاجاً لأمراضهم المجتمعية، بل كانت مشبعة بخلفية غريبة عنهم . أدى كل هذا إلى رفض كثير من مصلحي هذه الدول هذه الإصلاحات والأفكار ، وسعوا إلى القيام بنهضة ذاتية نابعة من داخل مجتمعاتهم ، تعالج أوضاعهم.
لم يتقبل الحكام أي محاولة للإصلاح الداخلي، كما أن الدول الغربية المستعمرة بذلت وسعها لوأد كل محاولات الإصلاح خوفاً على سلطانها ومصالحها الاقتصادية ، إذ كان واضحاً أنه مع قيام نهضة حقيقية وإصلاحاً داخلياً فسيعقب ذلك ثورة على الاستعمار.
كان من نتيجة التحالف الذي قام بين الدول الغربية وبين الطبقات الحاكمة في الدول العربية أن تم القضاء على كل سبل الإصلاح ، ولم يبق للدول العربية مجال للقيام بنهضة حقيقية تتوافق مع نظمها الفكرية والاجتماعية.
مما سبق يتضح أن الكلام عن دور العلمانية في قيام نهضة أوروبا أو جعل الدين سبباً لفشل التحديث في الدول الإسلامية كلام يتعارض مع الأدلة التاريخية ، بل كان نجاح التحديث في الغرب نتيجة لتطوره تطوراً طبيعياً من داخل المجتمع ، وأن نجاح النظام السياسي في الغرب إنما كان بسبب حرص الحكومات على التعاون مع شعوبها وليس بسبب تبني العلمانية نظاماً للحكم. ومما يعزز هذا الكلام تأمل أوضاع البلدان الأخرى التي استعمرت في ذات الفترة والتي لم يحقق أي منها تقدماً حقيقياً بالمعايير المادية.