- تأليف : باسكال إيمانويل جوبري
- ترجمة : عبدالجليل عبداللطيف السحيمي
- تحرير : محمد عبيدة
عندما أقرّت الجمعية الوطنية الفرنسية قانونا في الشهر الماضي، يحظر على أعضاء البرلمان ارتداء أو إظهار الرموز الدينية، تجاهل كثيرون أن ذلك يتماشى مع تقليد البلاد القديم، المتمثل في علمانية الدولة الصارمة. وفي المقابل، أصبح الحظر – أو بالأحرى التفكير الراديكالي الذي يقف وراءه – عقبة رئيسية أمام دمج مجتمعات المهاجرين بسلام.
و دعما لقانون الحظر الجديد، أصر رئيس الوزراء السابق، مانويل فالس على أن ذلك كان استمرارًا طبيعيًا لتراث طويل من الفصل بين الكنيسة والدولة في فرنسا. و تلقى وجهة نظر فالس قَبولا لدى النخب السياسية والثقافية الفرنسية، لكنها مع ذلك كاذبة بشكل واضح.
شملت الشخصيات السياسية الفرنسية البارزة في فترة ما بعد الحرب قساوسة من الروم الكاثوليك، الذين جلسوا في البرلمان في محرابهم التقليدي. مثل أبي بيير ، وهو راهب فرنسيسكاني، تصدّر استطلاعات الرأي لأكثر الشخصيات العامة إثارة للإعجاب في فرنسا، بسبب عمله الإنساني لعقود -حتى وفاته في عام 2007- في الحياة العامة كعضو في الجمعية الوطنية، ولم ينفصل قط عن لباسه الديني. وكذلك فعل الأب فيليكس كير ، وهو شخصية ملونة للغاية (نعم ، سمي الكوكتيل باسمه) الذي لم يكن بعيدًا عن مركز الصدارة في الحياة السياسية الفرنسية لأكثر من عقدين. و سعيد بنيس بوعلام ، ممثل الجزائر الفرنسية آنذاك ، جلس بثياب البربر التقليدية وعمامة، مدعيًا أن الزي رمز لإيمانه الإسلامي. ومع ذلك انتخب أربع مرات لمنصب نائب رئيس الجمعية الوطنية.
وفي مقابل ذلك، أنهى قانون عام 1905 الإعانات العامة للمؤسسات الدينية، لكنه لم يضع أي تشريع قانوني أو ثقافي ضد التعبير العام عن القيم الدينية. فلماذا أُخبرنا الآن بشكل مختلف؟
و الجواب واضح: فخلال العقود القليلة الماضية، هاجر ملايين الأشخاص المسلمين أو من أصول إسلامية إلى فرنسا. و عندها فقط ظهر هذا الفهم الجديد للعلمانية. إن الأسطورة التي مفادها أن علمانية الدولة فرضت دائمًا مثل هذه التفسيرات الصارمة هي فكرة ملائمة: فإذا كانت هناك مشاكل مع المسلمين الفرنسيين في فرنسا ، فيمكن إلقاء اللوم عليهم على ترددهم في اعتناق الحكم المقدس للعلمانية.
اقرأ ايضاً: لقد وصل المسلمون إلى أمريكا قبل البروتستانت بأكثر من قرن
و يُعد قياس التحيز الفرنسي ضد المسلمين أمرا صعبا، ويُعزى ذلك من ناحية إلى صعوبة فصله عن أشكال التحيز الأخرى، ومن ناحية أخرى بسبب التشديدات الفرنسية القوية ضد الدراسات الاجتماعية للدين. ففي عام 2015، توصل باحثون من Institut Montaigne، وهي مؤسسة فكرية مركزية، وواحدة من المؤسسات الفرنسية القليلة جدًا التي تهتم بالتساؤل، إلى طريقة ذكية لقياس التحيز ضد المسلمين، وعزله عن التحيز العنصري أو كره الأجانب، بواسطة التقدم إلى فرص العمل عن طريق متقدمين وهميين بسير ذاتية وهمية.
وكان الاشخاص الذين تم إعدادهم للتقديم لبنانيين، و يشير الاسم الأول للمتقدم مباشرة الى انتمائه الديني، وبالتالي يمكن ان تُعزى الاختلافات في ردود الفعل تجاه هؤلاء المتقدمين الى سبب معاداة الأديان، خلافا لأسباب التحيز العرقي او معاداة الأجانب، وكانت المتائج صادمة: اذ حصل المتقدمون الكاثوليك على ردود هاتفية ضعف ما حصله المتقدمون المسلمون، بينما كانت سيَرهم الذاتية متطابقة من جميع النواحي باستثناء انتمائهم الديني.
ومن ناحية أخرى، أظهر استطلاع للرأي أجرته “Harris Interactive” في عام 2013 – قبل الهجمات الإرهابية لشارلي إيبدو في 2015، و قبل موجة اللاجئين، التي زادت من حدة التوترات- على آراء الشعب الفرنسي بشأن المجتمعات الدينية نتائج مذهلة: اذ قال73 في المائة من المشاركين إن لديهم نظرة سلبية للإسلام. و قال 90 بالمائة إن ارتداء الحجاب الإسلامي “لا يتماشى مع الحياة في المجتمع الفرنسي”، و63 بالمائة يعتقدون أن الصلاة خمس مرات في اليوم تتنافى مع حياتهم أيضاً. و إذا كانت مشكلة الشعب الفرنسي مع الإسلام تتعلق بالعلمانية، فيجب اعتبار الراهبات الكاثوليكيات اللاتي يرتدين النقاب “غير متماشيات” مع المجتمع، ومع ذلك كان لدى غالبية المشاركين في الاستطلاع ذاته رأي إيجابي عن الكاثوليكية. هذه الظاهرة غير واعية إلى حد كبير، ولكنفي الممارسة العملية تتحول العقيدة الفرنسية العلمانية إلى نفاق مؤسسي. والنتيجة المتوقعة تماما لهذا النفاق، هي حلقة مفرغة من التطرف المتبادل. و منذ منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ازدادت نسبة النساء المسلمات اللائي يخترن ارتداء الحجاب الإسلامي زيادة ملحوظة، وفقا لأبحاث عالم الاجتماع الفرنسي رافائيل ليوجير. فلا يوجد أي غموض يعتري الموضوع… لقد كان الهدف من مشروع القانون السيء السمعة، الذي يحظر الحجاب الإسلامي في المدارس، والصادر في عام 2004، هو تهدئة التصورات العامة حول الإسلام، عن طريق تحويل المدارس إلى أماكن آمنة، وقد حقق عكس ذلك. ومع ذلك، فلا توجد شخصية جديرة بالملاحظة في السياسة الفرنسية تفكر في توقيف هذا القانون، أو حتى في تخفيف حدته.
إن مشاكل دمج المسلمين أوسع بكثير من العقبات التي تثيرها العلمانية الفرنسية . و لكن الشعار العلماني يخنق النقاش العام، ويمنع التقدم في الأبعاد الأخرى، سواء أكانت اجتماعية أم اقتصادية أم ثقافية. و كل هذا يطرح السؤال: أين هو إيمانويل ماكرون؟ ففي وقت سابق من هذا العام، أعلن مكتبه أنه سيلقي خطابًا تاريخيًا حول العلمانية، قبل أن يتم الغاء الخطاب بعد ذلك. ومن الجدير بالذكر أن ماكرون الذي دافع عن قانون جديد يفرض ضوابط أكثر صرامة على الهجرة، التزم الصمت بشأن حكم الزي الديني الذي أقرته أغلبيته، و بصرف النظر عن الإلماحة التي تم تسريبها من خلف الأستار إلى الصحافة بأنه يفضل فهمًا أكثر تساهلاً للعلمانية، فمن التافه جدا من رئيس دولة منتخب بولاية أن يتحدى بجرأة الوضع الراهن.
إن التحدي الرئيس الذي يواجه السياسة الداخلية المحلية برئاسة إيمانويل ماكرون، هو جعل الاقتصاد الفرنسي ليس فقط أكثر دينامية، بل أكثر شمولية: فلا يمكن للمرء أن يسير دون الآخرين، لأن البطالة الجماعية في فرنسا تَطال المسلمين الفرنسيين غير المؤهلين بشكل مفرط. و بالنظر إلى الأدلة الهائلة على وجود التحيز ضد المسلمين، والتمييز في سوق العمل، فمن الصعب الاعتقاد بأن التعديلات على قوانين العمل والضرائب وحدها يمكن أن تعالج ذلك، فرفض معالجة القضايا الثقافية التي تعيق الاندماج بين المجتمع ليس فقط قصرا في النظر – بل إنه يعرض المجتمع بأكمله للخطر. و بالنسبة إلى رئيس منتخب بناءً على وعد بأنه سيتغلب على السياسات القديمة في فرنسا، فيجب أن يكون تحقيق الأخلاقيات الأكثر شمولية وإنهاء الأسطورة العلمانية عنصرًا رئيسا في رأس القائمة.
المصدر bloomberg,#