- تأليف : برين ريسنيك – Brian Resnick
- ترجمة : حسين القرني
- تحرير : خلود بنت عبدالعزيز الحبيب
لماذا يصعب علينا إدراك جهلنا، وماذا نفعل حياله.
أرادت جوليا روهورر، العالِمة المتخصصة في علم نفس الشخصية بمعهد ماكس بلانك للتنمية البشرية، أن تؤسس لثقافة جديدة لعلماء الاجتماع؛ بحيث تجعل أقرانها – من نفس التخصص- يعترفون بمحض إرادتهم عندما يكونوا مخطئين، ومن أجل القيام بذلك بدأت روهرر في تأسيس مشروع يسمى فقدان الثقة، حيث صُمّم ليكون مساحة أكاديمية آمنة للباحثين يعلنون منها بأنهم لم يعودوا واثقين تماما من استنتاجاتهم السابقة، مؤخرًا أسفرت هذه الجهود عن ورقة تضمنت ستة اعترافات بعدم الثقة، وما زالت هذه الاعترافات تُقبل حتى تاريخ ٣١ يناير.
تقول روهرر: “لا أظن أن عدم استعداد هؤلاء الباحثين للاعتراف بأخطائهم له علاقة بالثقافة الشائعة، إن هدفنا الأوسع هو أن ندفع بالنظام العلمي كله، وعلم النفس أيضا نحو ثقافة مختلفة”، حيث يكون من المقبول والشائع والمتوقع للباحثين أن يعترفوا بأخطاء الماضي، ولا يُعاقبوا على ذلك، وقد جاء هذا المشروع في الوقت المناسب؛ حيث إن عددا كبيرا من الاستنتاجات العلمية قد ثبت عدم صحتها، أو أصبحت موضع شك في السنوات الأخيرة، وقد كان هناك جهدٌ مبذول لإعادة اختبار مئة تجربة نفسية، وُجد منها ٤٠٪ فقط تم فيها تكرار التجربة بأساليب أكثر صرامة، لقد كانت فترة مؤلمة لعلماء الاجتماع الذين اضطروا للتعامل مع تكرار الدراسات الكلاسيكية التي فشلت، واستيعاب أن ممارساتهم البحثية غالبا ما تكون ضعيفة.
لقد كان من المذهل أن نشاهد العلماء وهم يكافحون من أجل جعل مؤسساتهم أكثر تواضعًا، وأعتقد بأن هناك فضيلة مهمة وغير مفهومة في هذه العملية، تحدثت خلال الأشهر القليلة الماضية إلى العديد من الباحثين حول سمة التواضع الفكري، والتي تسمح بالاعتراف بالخطأ، لقد جئت هنا لأقدر قيمة هذه الاعترافات ومدى حاسميتها في مجال التعلم، لا سيّما ونحن في عالم مترابط ومعقد بشكل متزايد، وبما أن التكنولوجيا سهلّت لنا الكذب، ونشر المعلومات الكاذبة بسرعة مذهلة، فنحن بحاجة إلى أشخاص فضوليين ومتواضعين فكريا، لقد أدركت مدى صعوبة تعزيز التواضع الفكري، في تقريري حول هذا الأمر، تعلمت أن هناك ثلاثة تحديات رئيسية في طريق هذا التواضع، لكي نحصل على مزيد من التواضع الفكري، فعلينا جميعا – حتى الأذكى بيننا- أن ندرك نقاط ضعفنا المعرفية بشكل أفضل،
١. عقولنا غير مثالية وغير دقيقة بما يمكن أن نعترف به، فقد يكون جهلنا غير مرئيا بالنسبة لنا.
٢. حتى عندما نتغلب على هذا التحدي الهائل ونكتشف أخطاءنا، فعلينا أن نتذكر بأننا لن نُعاقب بقولنا: ” كنتُ مخطئًا”، نحن بحاجة إلى أن نكون أكثر شجاعة في قول ذلك، وثقافة تحتفي بهذه الكلمات.
٣. لن نحقق تواضعا فكريا مثاليا؛ لذلك نحن بحاجة لاختيار قناعاتنا بعناية.
وخلاصة القول هو أن التواضع الفكري ليس بالأمر الهيّن، ولكنها صفة تستحق منا النضال والفشل مرارا – من أجل تحقيقها- في هذه السنة الجديدة.
يُعرّف لي لاري- أستاذ علم نفس الاجتماع والشخصية بجامعة ديوك-، التواضع الفكري بكونه: “الاعتراف بأن الأشياء التي نؤمن بها قد تكون خاطئة في الواقع”، لكن لا تخلط معنى التواضع العلمي بالتواضع العام أو البشاشة، فالأمر ليس بالهيّن، إذ لا يتعلق الأمر بنقص الثقة أو تقدير الذات. المتواضع فكريًا لا يستسلم دائمًا في كل مرة يتم فيها تحدّي أفكاره.
بدلًا من ذلك، فهي طريقة تفكير تتعلق بجعلك مستمتعا باحتمالية أن تكون مخطئًا، وذا قابلية للتعلم من تجارب الآخرين، إن التواضع الفكري هو أن تكون فضوليًا تجاه ما تجهله، تعملُ أحد العالمات بحيوية ضد إثبات فرضيتها الخاصة، إذ تحاول استبعاد أي تفسيرات بديلة أخرى للظاهرة قبل التوصل إلى النتيجة النهائية، وذلك بسؤال: ما الذي افتقده هنا؟ وهذا يعد مثالا أعلى في المنهج العلمي.
يقول لاري :” إنها عملية مراقبة ثقتك بنفسك”، إن التواضع العلمي لا يتطلب معدل ذكاء مرتفع أو مهارة بعينها، بل يتطلب التفكير في حدودك المعرفية، والتي من الممكن أن تكون مؤلمة.
هذه الفكرة هي أقدم من علم النفس الاجتماعي، فقد كان الفلاسفة فيما مضى من قرون في حالة صراع مع حدود المعرفة الإنسانية، كتبَ الفيلسوف الفرنسي مايكل دي مونتين، والذي عاش في القرن السادس عشر في أحد مقالاته: ” إن وباء الإنسان هو التباهي بمعرفته”.
من الأمور التي تعلَمّها علماء النفس الاجتماعي، هو أن التواضع مرتبط بصفات شخصية قيّمة أخرىظن فالأشخاص الذين يحصلون على نتائج أعلى في استبيانات التواضع الفكري هم اكثر قابلية لسماع وجهات النظر الأخرى؛ وذلك لأنهم يولون مزيدَ اهتمامٍ للأدلة، ولديهم وعي أقوى بذواتهم عندما يجيبون على سؤال غير صحيح.
عند سؤالك متعجرفًا فكريًا عمّا إذا كان قد سمع ب “تمرد هامريك”، فإنه سيجيب بالتأكيد، بالمقابل فإن المتواضعين فكريًا هم أقل احتمالية للقيام بذلك، وجدت الدراسات بأن التفكير الإدراكي، أي التفكير التحليلي، مرتبط بالقدرة على تمييز الأخبار المزيفة من الصحيحة، هذه الدراسات لم تبحث في عن التواضع الفكري في حد ذاته، ولكن قد يكون هناك تداخل على المستوى الظاهر.
الأهم من هذا كله، هو أن المتواضعين فكريا هم أكثر احتمالية للاعتراف بأخطائهم، فعندما نعترف بأننا على خطأ؛ فإننا نقترب أكثر من الحقيقة.
أحد الأسباب التي دفعتني للتفكير في صفة التواضع في الآونة الأخيرة؛ هو رئيسنا الحالي دونالد ترمب، والذي يعدُّ واحدًا من أقل الناس تواضعا في هذا العالم نعم، ترمب الذي قال عشية ليلة ترشيحه في الانتخابات الرئاسية:” أنا الوحيد القادر على إصلاح نظامنا السياسي برمّته”، وأيضا قال:” أنا واحد من أعظم الذين لديهم قدرة على التذكر في كل الأزمان”، وعندما أراد التهرّب من سؤال حول التغير المناخي في مقابلته التي جرت مؤخرا مع وكالة أسوشيتد برس، أجاب:” لدي غريزة طبيعية نحو العلم”.
إن الاحباط الذي أشعر به حيال ترمب والعصر الذي يمثّله، هو أن كبرياءه ونجاحه – وهو من بين أقوى الناس على الأرض- يبدو أنهما أمرين مترابطين، فهو يجسّد كيف أن مجتمعنا يكافئ الثقة والصخب وليس المصداقية.
وقد رأينا أيضا بعض الأمثلة البارزة جدًا مؤخرًا حول كيف يمكن أن تكون القيادة ذات الثقة المفرطة مدمرة للشركات، انظر إلى ما حدث لشركة ثيريانوس، التي وعدت بتغيير طريقة استخلاص عينات الدم، لقد فعلت كل ذلك الضجيج والبريق، ثم انهارت، ولنفكّر أيضا في المديرين التنفيذين الواثقين بإفراط في قدراتهم في شركة إنرون، والذين غالبا ما يلاقون قبولا اجتماعيا نظير تألقهم الفكري، فقد دفعوا بالشركة نحو الهاوية بقرارتهم المالية المشكوك فيها، والمحفوفة بالمخاطر.
تكمن مشكلة الكبرياء هي أن الحقيقة دائمًا ما تُدرك، قد يكون ترمب واثقًا من نفسه عندما رفض نتائج التقرير المتعلقة بالتغير المناخي، لكن هذه التغييرات ستبقى تدمر الكثير من الأشياء في المستقبل.
جهلنا الذي لا نراه
بما أنني كنتُ أقرأ الأبحاث النفسية حول التواضع الفكري والسمات الشخصية المرتبطة به، فلا يسعني سوى الغضب وأتساءل: لماذا يصعب ذلك على الناس؟
نحتاج إلى مزيد من التواضع الفكري لسببين؛ أولها: هو أن ثقافتنا تروج وتكافئ الثقة المفرطة والغرور (فكّر في ترمب مثلًا، أو مستشاري شركة ثرانوس، أو النصيحة التي قدمها لك مستشارك الوظيفي قبل دخولك لمقابلة شخصية)، والثاني: هو أننا في الوقت نفسه، فإننا عندما نكتشف أننا مخطئين – جهلًا منّا أو زللًا- فإن ثقافتنا لا تجعل من الاعتراف بذلك أمرا هيّنًا، إذ يمكن أن تتحول لحظة التواضع تلك إلى لحظة إذلال.
إذا، كيف يمكننا تعزيز التواضع المعرفي، بالرغم من هذين الوضعين؟
عندما طرحت هذا السؤال على الباحثين والعلماء، تعلّمت أن أقدّر مدى صعوبة هذا التحدي، الذي يتبنّى مشروع التواضع الفكري.
قبل كل شيء، أعتقد أنه من المفيد أن نتذكر كيف يمكن لعقل الإنسان أن يشوبه بعض أوجه القصور، وكيف يمكن أن نكون جميعًا مُعرضين لعدم إدراك كل شيء، عندما تتعلم -تماما- كيف يعمل الدماغ، وكيف يرى العالم، فمن الصعب ألّا يذعر المرء قليلًا.
نحن في الغالب لا نعي ولا نشعر بما لا نعرفه، لذا؛ فإنه من المفيد أن نُدرك، أن اخطاءنا أمر طبيعي وغريزة بشرية.
بالنسبة إلى قلةٍ منكم ممن لم يستوعبوا الأمر- أتمنى أن تستفيقوا جيدًا من غيبوبتكم- إليكم ما حدث،
انتشر مقطع بصوت روبوتي ينطق باسم “لوريل”، لكن هل كان فعلا ينطق هذا الاسم؟ بدلًا من ذلك، بعض من استمع إلى المقطع سمع اسم ” ياني” على الفور، وكلتا المجموعتين قد سمعتا بالفعل نفس المقطع.
إن القدرة على تمييز ما نسمعه من أوجب ما على عقولنا أن تستوعبه، إن استماع عددٍ كبيرٍ من الناس إلى المقطع نفسه، واختلاف تمييزهم لما نُطق به لهوَ أمرٌ يستحق منا وقفة تواضع، استماعنا لاسم “لوريل” أو ” ياني” يعتمد على عدة عوامل: جودة السماعات التي تستخدمها، أو ضعف السمع، أو توقعاتك.
إليكم الدرس العميق الذي يجب علينا استخلاصه مما سبق، بقدر ما نقول لأنفسنا أن تجاربنا في هذا العالم حقيقية، فإن الواقع دائمًا له تفسيره. يدخل الضوء إلى أعيننا، وموجات الصوت إلى آذاننا، وتتسرب الروائح الكيميائية إلى أنوفنا، ثم يبقى الأمر متروكا لأدمعتنا كي تخمّن ما تعرضت له حواسنا.
إن هذه الحيل الإدراكية ( بما فيها ظاهرة لون الفستان)، تكشف لنا أن تصوراتنا للأشياء ليست حقيقة مطلقة، وأن ظواهر الكون الفيزيائية غير مكترثة ما إذا كانت أعضاؤنا الحسية ضعيفة لإدراك – هذه الظواهر- بشكل صحيح أم لا، نحن فقط نخمّن، ثم تثير هذه الظاهرة غضبنا، إذ كيف يكون فهمنا للظواهر ليس الوحيد في هذا العالم.
إن إحساس الغضب تجاه مشاعرنا بأن تصورنا للعالم هو الصحيح يسمى بالواقعية الساذجة، ذات مرة أخبرني كريس شابريس،- الباحث النفسي الذي شارك في تأليف عدة كتب عن تحديات الإدراك البشري-،” أعتقد أحيانا بأننا نخلط بين الجهد والدقة”، عندما يكون هناك نتيجة فورية ومن غير جهد – سماع صوت ياني مثلا- فيبدو لنا الأمر صحيحا، وبالمثل، يجد علماء النفس أنه متى تكررت الكذبة، فمن الأرجح أن يساء فهمها وتتحول إلى حقيقة، ولأسباب مشابهة، فإننا عندما نستمع لشيء مرتين أو ثلاثة، فإن أدمغتنا تصبح سريعة في الاستجابة لذلك. وهذه الاستجابة تشوّش الحقيقة.
غالبًا تكون تفسيراتنا للواقع اعتباطية، لكننا ما زلنا عنيدين بشأن إدراكنا لذلك، وبالرغم من هذا؛ يمكن أن تؤدي نفس الملاحظات إلى استنتاجات مختلفة لحد بعيد.
في كل معنى، وكل عنصر متعلق بالأحكام الصادرة منّا، هناك أوهامٌ وغموض تجاه تفسيراتنا الاعتباطية.
بعض هذه الاعتباطات خطيرة للغاية، فغالبًا ما ينظر الرجال البِيض إلى نظرائهم السود على أنهم أضخم جسمًا، وأطول قامةً، وذوي بنية عضلية أقوى منهم (وبالتالي أكثر تهديدا)، مما هم عليه حقا، هذا هو التحيز العنصري؛ لكنه وهمٌ بُنيَ على أساس اجتماعي.
عندما يُروى لنا أو نُعلَّم الخوف من الأشخاص الآخرين، فإن أدمغتنا تشوّه تهديدهم المحتمل بظنّها أن هؤلاء هم أكثر تهديدًا من غيرهم، وبالتالي تحاول أن تتجنبهم، وأيضاً عندما نتعلم ونسمع بأن الأشخاص الآخرين هم في مرتبة أقل من البشر، فإننا أقل احتمالًا من أن ننظر إليهم بلطف، وعلى الأرجح فإننا سنكون على ما يرام إذا ما ارتُكبت أعمال عنف ضدهم.
ليست تفسيراتنا للعالم غالبًا ما تكون اعتباطية فحسب، بل إننا قد نكون مفرطين في تصديقها، يقول ديفيد دانينغ، الخبير في أوجه قصور العقل البشري، “جهلنا ليس مرئيًا لنا”.
ربما تُميّز اسمه بسبب ارتباط اسمه الاول مع مسمى الظاهرة النفسية “تأثير دانينغ كروجر”، والذي يطلق على أولئك الذين يبالغون في تقدير إمكانياتهم بلا مبرر، ويتنكرون في ثوب الخبير.
ومن المفارقات أن كثيرًا من الناس يسيئون فهم “تأثير دانيغ كروجر”، فهم مفرطون في طريقة تعاملهم مع هذا المفهوم، ويفهمونه بطريقة خاطئة.
عندما يتحدث الناس أو يكتبون عن هذه الظاهرة، فإنهم دائما ما يشرون إلى أشخاص آخرين، يقولُ دانينغ:” في الواقع أن هذه الظاهرة تزورنا جميعا عاجلًا أم آجلًا”. كلنا نبالغ في جهلنا من حينٍ لآخر، (ربمّا يتعلق الأمر في اعتقاد الأمريكين بأن 65% منهم أكثر ذكاًء من المعدل الطبيعي، وهذا ما يتمنوّه).
وبالطريقة نفسها، نجد أننا نبالغ في الثقة بقدرتنا على التذكر، إن الذاكرة البشرية مرنة للغاية، وعرضة للتغيرات الصغيرة، فعندما نتذكر، فإننا لا نرجع بعقولنا إلى لحظة معينة لاستعادتها، لكن الكثير منّا ما زال يعتقد أن ذاكرتنا تعمل كشريط فيديو.
يقول دانيغ:” إن عدم إدراكنا لنطاق جهلنا ما هو إلا جزءٌ من الوضع الإنساني، ولكن المشكلة تكمنُ في أننا نرى نطاق الجهل في الآخرين ولا نراه بأنفسنا، إن القاعدة الأولى في نادي “دانيغ كروجر” هي أنك لا تعرف أنك عضوا فيه”، ويأملُ دانينغ أن يكون عمله مساعدًا للناس في توسيع مدراكهم.
ليس من المحتمل أن يعاملك الناس بقسوة إذا اعترفت بخطئك
في عام 2012 م قام عالِم النفس “ويل جيرفياس” بتكريم طلاب مرحلة الدكتوراه، وذلك بأن منحهم الفرصة في حال أرادوا المشاركة في إعداد أوراق بحثية لمجلة العلوم ، والتي تعد واحدة من أكبر المجلات العلمية المتعددة التخصصات في العالم، إن نشر أبحاث الطلاب في هذه المجلة العلمية لا يساعدهم فقط على النهوض في الدوائر العلمية فحسب، بل إنه عادة ما يجلب لهم زخمًا إعلاميا.
طرحت أحد الأوراق البحثية المشاركة في المجلة تجربة تتعلق بمعرفة ما إذا كان الناس سيفكرون بشكل منطقي أكثر إن كانوا أقل إيمانا في معتقداتهم الدينية، كان بعض المشاركين في التجربة ينظرون إلى تمثال المفكر، للنحات الفرنسي رودن ظنًّا منهم بأن هذا الفعل من شأنه أن يجعلهم يفكرون بشكل أكثر جدية وتحليلًا، في مثل هذا التأطير العقلاني ، كان المشاركون أقل عرضة لتأييد التصديق بشيء على أساس إيماني وغير مرئي، كالدين مثلًا، وهذا ما خلُصت إليه الدراسة، لقد كانت هذه الخلاصة بالنسبة للصحفيين العلميين بمثابة خدعة بسيطة، كان لها أثرا في تغيير الطريقة التي نفكر بها، ولكنها كانت مجموعة تجريبية قليلة العدد، وهذا العدد القليل هو بالضبط ما يمكن أن يؤدي إلى تحقيق نتائج إيجابية زائفة، وبعد عدة سنوات، أعيدت التجربة مع مجموعة تجريبية أكبر بكثير، لكنها فشلت في إيجاد أي دليل على التأثير.
بينما كان جيرفايز يعلم أن التجربة الأصلية لم تكن صارمة، فإنه لم يكن بوسعه سوى أن يشعر بشيءٍ من الضيق وعدم الراحة.
يقول جيرفايز:”من الناحية الفكرية، فيمكنني القول بأن المعطيات الأساسية لم تكن كافية، وهذا يختلف كثيرًا عن رد الفعل البشري والشخصي تجاه التجربة، لكن من الناحية الشخصية والبشرية فإن ردة فعلي ستكون على غرار التأنيب، والتي تتمثل بشكوكي حول التعاطي الإعلامي مع هذا الاعتراف، وقلقي من أن يكون هناك عواقب مهنية، ومن تفكير الناس في نتائج أبحاثي الأخرى التي أنجزتها.
إن قصة جيرفايز مألوفة لنا، إذ إننا نخشى كثيرًا من أن يُنظر إلينا على أننا أقل كفاءة وموثوقية عند اعترافنا بالخطأ، وحتى عندما نتمكن من معرفة أخطائنا – والتي هي موضحة أعلاه-، فإنه ليس من السهل الاعتراف بها.
تبيّن أن هذه الافتراضات غير صحيحة، وما توصّل إليه آدم فيترمان، أخصائي علم النفس الاجتماعي في جامعة تكساس إل باسو، أن الاعتراف بالخطأ لا يُحكم فيه على صاحبه بقسوة، يقول فيترمان:” عندما نرى شخص ما يعترف بخطئة فإننا نراه محبوبًا بشكل أكبر.
بالتأكيد قد تجد من يذمك على أخطائك، وقد يكون هناك جلبة في موقع تويتر من أجل أن يذموّك، فلحظات التواضع هذه قد تكون مهينة، ولكن إن أردنا أن نصبح أقل مكابرة وأكثر تواضعا، فإن علينا أن نهزم هذا الخوف.
التواضع الفكري ليس أمرًا جوّانيًا فحسب؛ بل نحن بحاجة إلى بيئة تعزز من انتشاره
حتى لو كنت متحمسًا لتكون متواضعا فكريا، فإن ثقافتنا لا تكافئ هكذا أمور.
بشكل عام، فإن التجارب في مجال علم النفس تتعرض لـ”أزمة التكرار”، حيث أن العديد من الاستنتاجات البحثية للتجارب الكلاسيكية في هذا العلم لم تكن تحت رقابة صارمة، إن الكتب المدرسية كان لها تأثيرٌ بالغ في علم النفس، حيث إن نظريات مثل “استنفاد الأنا” أو ” اختبار المارشميلو”، قد تم التشكيك فيها أو حتى بطلانها.
لقد رأيت أنه من الرائع مشاهدة حقل علم النفس يتعامل مع هكذا نظريات، لكن هذا الأمر كان مقلقًا لبعض الباحثين، كتبَ مايكل انزيليخت، أستاذ علم النفس في جامعة تورنتو، في مدونته عام 2016 م، بعد أن رأى نظرية استنفاذ الأنا تُقوّض أمام عينيه:” أنا في مكان مظلم، هل كنت أطارد وهما طيلة السنوات الماضية؟”.
ما تعلمته من ” أزمة التكرار”، هو أن التواضع الفكري يتطلب دعمًا من الأقران والمؤسسات، ومن الصعب بناء هكذا بيئة.
تقول سيمين فازير، أخصائية في علم النفس ومحررة صحفية- والتي كثيرًا ما تكتب وتتحدث عن قضايا تكرار التجارب-، “إن ما ندرسّه للطلاب الجامعيين، هو أن العلماء يريدون أن يثبتوا لأنفسهم بأنهم على خطأ، لكن كيف لي أن أعرف ما إذا كنت مخطئة؟ في الواقع، هذا سؤال صعب جدًا، إذ إنه ينطوي على أشياء، مثل وجود منتقدين يصرخون عليك ويخبرونك بأنك فعلت أمورًا خاطئة، ثم تعيد تجربتك”.
ومرةً أخرى، حتى بين العلماء – والذين ينبغي عليهم السؤال عن كل شيء- ، يبقى التواضع المعرفي أمر صعب، وفي بعض الحالات رفض الباحثون التنازل عن خلاصات بحوثهم، بالرغم من اكتشاف أدلة جديدة.، ومؤخرًا أخبرني أحد علماء النفس المشهورين بكلِّ غضب من أنه سيقف بجانب نتيجة بحثه طيلة حياته، وبغض النظر عما يقوله أي شخص.
إن علماء النفس هم بشر مثلنا، وعندما يصلون إلى استنتاج ما فإنه يصعبُ عليهم رؤية الأشياء بطريقة أخرى، بالإضافة إلى أن الحوافز المقدمة في مجال علم النفس تدفع الباحثين لنشر أكبر عدد ممكن من الاستنتاجات الإيجابية.
من بين العديد من الحلول، يبرز حلان اثنان تجعل علم النفس أكثر تواضعا، وأعتقد أن بإمكاننا أن نتعلم منها.
أول هذه الحلول هو: أن التواضع يجب أن يُبنى في الممارسات المنتهجة في باقي العلوم، وهذا يحدث من خلال الشفافية، لقد أصبح الأمر أكثر شيوعا للعلماء بتصميم الدراسة قبل البدء فيها، باتباع هذه الطريقة؛ سيصعب على العلماء أن ينحرفوا عن الخطة ويختاروا النتائج التي يميلون إليها، بالإضافة إلى أن المعطيات ستصبح متاحة لأي شخص يريد إعادة الدراسة.
يقول تشابريس:” هذه الطريقة تبني التواضع في هيكل المؤسسة العلمية، نحن لا نعلم ولا نلاحظ كل شيء، ولسنا الأفضل فيما نجريه من دراسات، لذا؛ فإنه وبإتاحتنا للمعطيات لغيرنا كي يدققوها، ويحسنوها، فإن بإمكاننا أن نأتي بأفكار جديدة”، وحتى نكون أكثر تواضعًا من الناحية الفكرية؛ فإننا بحاجة أن نكون أكثر شفافية بشأن المعرفة التي نمتلكها، وبحاجة أن نخبر الآخرين بما نعلم ومالا نعلم.
ثانيًا: هناك حاجة للاحتفاء بالفشل، وثقافة تتقبل ذلك، ويشمل ذلك تأسيس أماكن آمنة يمكن للعلماء من خلالها أن يعترفوا بأخطائهم – كما في مشروع فقدان الثقة-، لكن من الجلّي أن هذا التغيير الثقافي لن يأتي بسهولة، بعد أن نالت روهرر العديد من الإشادات حول المشروع قالت:” انتهى بنا الأمر بعدد قليل من الاعترافات”.
نحن بحاجة إلى الموازنة بين القناعات والتواضع
قد يكون هناك تكلفة للتواضع الفكري على المستوى الشخصي، بالنسبة لي قد يكون أقلّها القلق.
عندما أصارح نفسي بجهلي الكبير، فإني أشعر كما لو أنّي أختنق، لدي عقل وحيد، وزورق صغير يبحر لاستكشاف المعارف في بحر واسع لا أحمل خريطة له.
لمَ لا أرى أحدًا يتصارع مع هذه المياه؟ قف أمام الشاطئ، وتأمل فيه، ولتحلّ بَرَكَته في ذهنك، واعترف بأخطائك وستكافئ على ذلك، يقول تينيل بورت، أخصائي علم النفس بجامعة كاليفورنيا ديفيس، والذي درس التواضع الفكري:” لست على دراية ما إذا كان التواضع سيبعدك كثيرا عن التكبر”.
إن التواضع إلى أقصى حد لا يكفي، فأنت لست بحاجة إلى أن تكون متواضعا بشأن اعتقادك بأن الأرض كروية، أعتقد أن شيئا قليلا من التواضع هنا وهناك سيكون أمرًا حسنا”.
يقول أستاذ الفسلفة في جامعة كونيكتيكت مايكل لينش:” من السيء أن نفكر في المشاكل كتفكيرنا في كيفية تركيب مكعب روبيك، يمكننا أن نحرز تقدمًا- في حل المشاكل- في لحظة من الزمن، ونحسن الأمور، وهذا ما يمكننا بالتأكيد أن نفعله”.
يزعم لينش أنه ولكي تزدهر الديموقراطية؛ فإننا بحاجة إلى أن نوازن بين قناعتنا وتواضعنا، نحن نحتاج إلى القناعات؛ لأن -والحديث لـ لينش- :” الناخبين اللامبالين ليسوا بناخبين على الإطلاق، ينبغي علينا التواضع؛ لأننا بحاجة للاستماع إلى بعضنا البعض، ولن يخلو هذين الأمرين من توتر دائم.
إن رئاسة ترمب تشير إلى وجود قناعة أكثر من اللازم، وانعدام للتواضع في ثقافتنا المحلية.
ويكملُ لينش بقوله:” السؤال الشخصي والوجودي الذي يواجهني وكل إنسان مفكر، هو: كيف تحافظ على عقلٍ متفتح تجاه الآخرين، وفي الوقت نفسه، تحافظ على قناعاتك الأخلاقية القوية؟ هذه قضيتنا جميعا”.
أن تكون متواضعا فكريا لا يعني أن تتخلى عن أفكارك التي تحبها وتؤمن بها، بل يعني أنك بحاجة إلى أن تفكر قبل أن تختار قناعاتك، وأن تكون منفتحا لضبطها، وتبحث عن عيوبها، وأن لا تتوقف أبدًا عن الفضول الذي يتملكك تجاه ما نؤمن به ولماذا نؤمن به، وأكرر، هذا ليس بالأمر الهيّن.
قد تفكر، هل كل ما استشهدنا به هنا عن التواضع الفكري يرتبط ارتباطا وثيقا مع التفكير المنفتح؟، إلى هنا سأقول إن البحث ليس مثالياً، استندت هذه الدراسات على تقارير ذاتية، حيث يمكن أن يكون من الصعب الوثوق في أن يعرف الناس من هم بالفعل أو أنهم صادقون تماما، ونعلم أن نتائج العلوم الاجتماعية غالبا ما تكون مرفوضة، لكني سأعتبرها علامة اقتناع بأن التواضع الفكري فضيلة، وسأرسم هذا المسار لنفسي؛ فهي قناعتي.
هل كنتُ مخطئًا فيما ذكرت؟ ربما، لكن حاول أن تقنعني بذلك.
المصدر : Intellectual humility: the importance of knowing you might be wrong