- تأليف : ماريا كونيكوفا Maria Konnikova
- ترجمة : زينب بنت فؤاد عبدالمطلب
- تحرير : خلود بنت عبدالعزيز الحبيب
- مراجعة التحرير: سعيد السوادي
كتب الفيلسوف لودفيغ فيتغنشتاين عام 1922 في كتابه (أُطروحة فلسفية-منطقية): “حدود لغتي تعني حدود عالمي”، تُؤثّر الكلمات التي تكون تحت تصرفنا على ما نراه، فكلّما كان عدد الكلمات أكثر، كلّما كانت تصوراتنا أفضل، عندما نتعلم الكلام بلغة مختلفة، نتعلم رؤية عالم أكبر.
يتّفق العديد من باحثي اللغة المعاصرين مع هذه الفرضية، لا يساعدنا التّحدث بلغات عديدة على التواصل فحسب، بل إن الثنائية اللغوية (أو التعددية اللغوية) ربما تمنح الدماغ النّامي مزايا واضحة بالفعل، تذهب النظرية إلى أنّ تنقُّل الطفل ثنائي اللغة بين لغتين يؤدي إلى تطور الوظائف التنفيذية المعزّزة لديه، أو القابلية لضبط ما يُدعى بالعمليات المعرفيّة العليا بشكل فعّال، مثل حلّ المشكلات، والتذكّر، والتفكير، فيصبح الطفل قادراً على كبح بعض ردود الأفعال، وتعزيز بعضها الآخر بشكل أفضل، ويطوّر الطفل بشكل عام عقلاً أكثر مرونة ونباهة؛ هذه هي الظاهرة التي يدعوها العلماء ميزة ثنائية اللغة.
حتّى النصف الأول من القرن العشرين، اعتقد الباحثون فعلاً أنّ الثنائية اللغوية تضع الطفل في حالة مُعيقة، كشيء يضر معدّل ذكائه وتطوّر اللفظ لديه، لكن في السنوات الأخيرة، ظهرت فكرة ميزة ثنائية اللغة في أبحاث على النقيض مما كان سائداً في السابق، حيث بدت هذه الأبحاث مقنعة وواسعة الانتشار، معظمها من العمل المتأني لأخصائيّة علم النفس إلين بياليستوك.
يبدو أنّ لثنائيي اللغة أفضلية عند القيام بالعديد من المهام، بما فيها تلك التي تتعلق بعمل الذاكرة المؤقتة. في استعراض للأدلة أُنجزَ عام 2012، أثبتت بياليستوك أنّ ثنائيي اللغة أظهروا بالفعل وظائف تنفيذية مُعزّزة، وهي الميزة التي ارتبطت من ضمن أشياء أخرى بتحصيل دراسي أفضل. وعندما نأتي لمزايا مثل الانتباه المستدام والتنقّل بين المهام، يكون ثنائيو اللغة في المقدمة. يبدو أنّ الأمر واضح إلى حد كبير، إذن في حال كان لك الخيار، يجب عليك أن تربي طفلك ليتحدث بأكثر من لغة. بالفعل، أبحاث تتحدث عن ”الإبداع والثنائية اللغوية”، ”المزايا المعرفية لطفل ثنائي اللغة في الخامسة من عمره”، “ميزة ثنائية اللغة في التنقل بين المهام”، “الثنائية اللغوية تقلل من تدخل اللغة الأم أثناء تعلّم كلمات جديدة”، و “المتنقّلون بين اللغات الجيدون هم المتنقّلون بين المهام الجيدون” –والكتب المنشورة مع عناوين مستفزّة مثل “ميزة ثنائية اللغة”، و“الثنائية اللغوية أفضل”– تقترح أنّ تربية طفل ثنائي اللغة في أغلب الحالات هي بمثابة وصفة لتربية طفل ناجح.
تتحدث أنجيلا دي بروين بلغتين منذ كان عمرها إحدى عشرة سنة، ولدت دي بروين في ثمانينات القرن العشرين في بلدة نيجميغين الصغيرة في هولندا، حيث تحدثت دي براون باللغة الهولندية في المنزل وانغمست في استخدام اللغة الإنجليزية في المدرسة. أصبحت مولعة بالثنائية اللغوية وقرأت بشغف عن المزايا المعرفية التي يفترض أن يمنحها التحدث بطلاقة بأكثر من لغة. في الجامعة، اختارت دراسة اللغويات وعلم الأعصاب، وفي عام 2012، التحقت دي بروين ببرنامج الدراسات العليا في علم النفس في جامعة إدنبره لتكمل تتّبُع الرابط بين الثنائية اللغوية والإدراك.
التحقت بالبرنامج متوقّعة تماماً دراسة مدى تكيّف دماغها ثنائي اللغة لتحقيق النجاح، أخبرتني دي بروين مؤخراً: “كان لدي انطباع بوجود تأثير قوي حقاً للثنائية اللغوية على الوظائف التنفيذية”. بعد ذلك، قامت بإجراء أول دراسة لها بشكل اعتيادي، من أجل اختبار وجود ميزة في الوظائف التنفيذية، عليك أن تعطي صيغة من اختبار، حيث يتعين على المشاركين بهذا الاختبار تجاهل محفّز معيّن، والتركيز على محفّزات أخرى بشكل انتقائي. على سبيل المثال، في مهمة سايمون شائعة الاستخدام، يُعرض لك صور أسهم -عادة- على كل من الجانب الأيمن والأيسر للشاشة، إذا رأيت سهما مشيراً لليمين، يجب عليك أن تضغط المفتاح الأيمن، لا يهم على أي جهة من الشاشة يظهر السهم، الأمر الوحيد الذي يهم هو الجهة التي يشير إليها السهم، عادةً، يُظهر الناس ردات فعل أسرع عند التجارب المتطابقة عندما يظهر السهم المشير نحو اليمين في الجهة اليمنى من الشاشة والعكس صحيح، يُفترض أن يملك ثنائيو اللغة ميزة عند التجارب غير المتطابقة: عندما يظهر السهم المشير نحو اليسار في الجهة اليمنى، والسهم المشير نحو اليمين في الجهة اليسرى.
عندما نظرت دي بروين في البيانات، مع ذلك، لم تظهر الميزة في ثلاث من الأربع مهمات التي تختبر التحكّم المانع (تحكُّم الشخص بمنع ردّات الفعل) بما يخص اختبار سايمون حيث كان أداء أحاديي اللغة وثنائيي اللغة متماثلا. قالت دي برويون: “اعتقدنا أن الدراسات السابقة المتوفرة لا تشكل صورة كاملة وموثوقة في هذا المجال”، لذا، قررت إجراء المزيد من الاختبارات.
بصورة منتظمة، قامت دي بروين بالبحث خلال ملخصات المؤتمرات لمائة وتسعة وستين مؤتمرا بين 1999 و 2012، التي درست العلاقة بين الثنائية اللغوية والوظائف التنفيذية، السبب وراء مراجعة دي بروين ملخصات المؤتمرات كان واضحا؛ فالمؤتمرات هي مكان يعرض به الباحثون دراسات قيد التنفيذ، يقدّمون الدراسات التي يجرونها ونتائج وأفكار مبدئيّة، إن وجد تحيّز منهجي في المجال ضد تقرير النتائج السلبية -وهي النتائج التي تظهر أنه لا يوجد تأثير للثنائية اللغوية- إذن يجب أن يوجد العديد من هذه النتائج السلبية مُقدَّمة في مؤتمرات أكثر من النتائج السلبية الموجودة في الأوراق البحثية المنشورة.
هذا ما توصّلت إليه دي بروين بالضبط في المؤتمرات، قرابة نصف النتائج تُظهر إمّا دعما كاملا أو جزئيا لميزة ثنائية اللغة في مهام معينة، بينما النصف الآخر يؤيّد الرفض الكامل أو الجزئي لهذه الميزة.
وبما يخصّ الأعمال التي نُشرت بعد عرضها الأولي في المؤتمرات، مع ذلك، كان الانقسام بوجهات النظر مختلفاً تماماً. ثمان وستون بالمائة من الدراسات التي أكدت وجود الميزة اللغوية نُشرت في مجلة علمية، مقارنة بتسع وعشرين بالمائة من الدراسات التي أكدت إما عدم وجود أيّ فرق بين ثنائيي وأحاديي اللغة، أو وجود ميزة لصالح آحاديي اللغة. استنتجت دي بروين أنّ “مراجعتهم” لملخصات الأبحاث ”تُظهر وجود صورة مشوّهة من نتائج الدراسة الفعلية على الثنائية اللغوية، مع إيمان باحثين (ووسائل الإعلام) بأن التأثير الإيجابي للثنائية اللغوية على العمليات المعرفية غير اللغوية قوي وغير قابل للدحض”.
لا ترفض دي بروين فكرة وجود مزايا لكون الشخص ثنائي اللغة، بعض الدراسات التي راجعتها تظهر وجود ميزة ما بالفعل، لكن الميزة ليست عالمية أو منتشرة، كما قُرِّرَ في كثير من الأحيان. بعد إكمال تحليلها للدراسات، أجرت دي بروين ومستشارها سلسلة إضافية من الدراسات والتي سلّماها للتو من أجل النشر آملين إيجاد حدود ميزة ثنائية اللغة، وحقيقة هذه الميزة بالفعل. من أجل اختبار وجود تأييد محتمل للميزة، اختبرا ثلاثة مجموعات مختلفة (أحاديي اللغة الإنجليزية، ثنائيي اللغة الإنجليزية – الغالية نشطون يتحدثون بالغالية في المنزل، وثنائيي اللغة الإنجليزية – الغالية سلبيّون لم يعودوا يستخدمون الغالية بشكل منتظم). حيث جعلوا كل مجموعة تقوم بأربعة اختبارات ̶ اختبار سايمون، واختبار الانتباه اليومي (حيث تسمع نغمات مختلفة ويجب عليك إحصاء عدد الأصوات المنخفضة واستبعاد المرتفعة)، وبرج لندن (تُحلّ المشكلة بتحريك أقراص على مجموعة من العصي لتَظهر صورة المظهر النهائي للبرج)، واختبار بسيط لتبديل المهام (حيث ترى دوائر ومربعات إما حمراء أو زرقاء، ويجب أن تلاحظ إمّا لونا أو شكلا محددا، تبعاً للمرحلة التي تقوم بها من الاختبار).
في المهام الثلاثة الأولى، لم يجدوا أيّ اختلاف بين المجموعات، في الاختبار الأخير، اعتقدوا أنهم اكتشفوا ميزة أخيراً: في اختبارات التنقل -الاختبارات التي تأتي مباشرة بعد التحول من الشكل إلى اللون أو من اللون إلى الشكل- بدت ردات فعل ثنائيي اللغة النشطين والسلبيّين أسرع. لكن عندما تعمّق الباحثون أكثر، وجدوا أن الحالة لم تكن سرعة ثنائيي اللغة في الانتقال وإنما كانت بطأهم في اختبارات اللا-انتقال، حيث يكون الشكل متبوعاً بشكل واللون متبوعاً بلون.
إذن، هل يعني ذلك عدم وجود أي شيء يدعى ميزة ثنائية اللغة؟ لا، هذه دراسة واحدة فقط، لكنها تضيف دلائل أخرى على الادّعاء بوجود مبالغة عند الحديث عن ميزة ثنائية اللغة في بعض الأحيان تقول دي بروين: ”أنا لا أقول بالطبع أنه لا يوجد ميزة ثنائية اللغة”، لكن هذه الميزة تختلف عن الطريقة التي وصفها بها العديد من الباحثين: كظاهرة تساعد الأطفال ليطوروا قدرتهم على التنقّل بين المهام، وبشكل أوسع، تُعزّز الوظائف التنفيذية لديهم، تؤمن دي بروين بأن الميزة الحقيقية ربما تأتي بعد ذلك بكثير، وبصيغة طفيفة الصلة مع التنقّل بين المهام والوظائف التنفيذية، وربما تكون هذه الصلة كنتيجة التعلم البسيط فقط.
إحدى المجالات التي تظهر بها ميزة ثنائية اللغة بالشكل الأكثر وضوحاً لا يرتبط بمهارة أو مهمة معينة: هي فائدة عامة تبدو أنها تساعد الدماغ المتقدم في السن، يبدو البالغون الذين يتحدثون بأكثر من لغة قادرين على مقاومة آثار الخرف أفضل بكثير من أحاديي اللغة، عندما تفحّصت بياليستوك سجلاّت مجموعة من كبار السن في عيادة في تورنتو مع شكاوى متعلقة بالذّاكرة أو عمليات معرفية أخرى، وجدت أنه من أولئك الذين أصيبوا بالخرف في نهاية المطاف، ظهرت أعراض المرض عند المتحدثين بلغتين مدى الحياة بعد أربع سنوات من ظهورها عند أحاديي اللغة.
في دراسة تالية مع مجموعة مختلفة من المرضى الذين أصيبوا بالزهايمر، وجدت مع زملائها -بغض النظر عن المستوى المعرفي المهنة السابقة أو التعليم-، أن المرض شُخِّص عند ثنائيي اللغة بعد أحاديي اللغة بثلاث أو أربع سنوات. يبدو أن الثنائية اللغوية، بعبارة أخرى، تمتلك أثرا وقائيا من التدهور المعرفي. هذا يبدو متطابقا مع قصة التعلم: نحن نعلم أن المحافظة على ذكاء إدراكي حتى الشيخوخة هو من أهم الطرق لحماية أنفسنا من الخرف، (وبذلك شاعَ لغز الكلمات المتقاطعة). عندما يستمر الدماغ بالتعلم، كما يبدو أنه يفعل عند الناس الذين يتحدثون بأكثر من لغة واحدة، يصبح قادراً أكثر على الاستمرار بالعمل بمستوى أعلى.
وهذا في حد ذاته، سبب كاف لتتعلّم لغة ثانية وثالثة ورابعة وخامسة ولتستمر بالتعلّم طالما أنت قادر على ذلك. ربما لا تظهر ميزة ثنائية اللغة في الصورة ذاتها التي يعتقدها الباحثون اليوم. لكن، في الأساس، ربما تكون فوائد ثنائية اللغة الحقيقية أكثر أهمية مما يعتقدون بكثير.
اقرأ ايضاً: هل تعليم الأطفال لغة جديدة في سن أصغر أفضل؟
المصدر : s Bilingualism Really an Advantage?
مقال رائع،، ومهم