الدين

موقف المؤمن تجاه الحكمة الإلهيَّة وقضية وجود الشر في العالم

د. عايض الدوسري

“ولكل أحدٍ مع نفسه في هذا المقام [=الأفعال والحكمة الإلهيَّة] مُباحثاتٌ وإيرادات وإشكالات وأجوبة، بحسب حاصله وبضاعته من المعرفة بالله تعالى وأسمائه وصفاته وحكمته والجهل بذلك، فالقلوب تَغْلِي بما فيها، كالقدور إذا استجمعَتْ غَليانًا. فلقد بَلغنَا وشاهَدْنَا من كثير من هؤلاء من التظلُّم لِلرَّبِّ تعالى، واتهّامه ما لا يَصْدُرُ إلا من عَدُوٍّ، فكان الجَهْمُ يخرج بأصحابه، فيقِفُهم على الجَذْمَى وأهل البلاء، ويقول: (انظروا، أرْحَمُ الراحمين يفعلُ مثل هذا؟). إنكارًا لرحمته، كما أنكر حِكمته. وأنت تشاهد كثيرًا من الناس إذا أصابه نوعٌ من البلاء يقول: تُرى ما كان ذنبي حتى فَعَلْتَ بي هذا؟ وقال لي غير واحد: إذا تبتُ إليه، وأنَبْتُ وعملتُ صالحًا، ضيّق عليّ رزقي، ونَكّد على معيشتي، وإذا راجَعْتُ معصيته، وأعطيتُ نفسي مُرادها، جاءني الرّزْقُ والعَوْنُ، أو نحو هذا.  فقلت لبعضهم: هذا امتحان منه، ليَرى صِدْقك وصَبرك، وهل أنتَ صادقٌ في مجيئك إليه، وإقبالك عليه، فتصبر على بلائه، فتكون لك العاقبةُ، أم أنت كاذبٌ، فترجع على عقبك”. ابن قيم الجوزيَّة

دأب الملاحدة والشُّكَّاك على مهاجمة الحكمة الإلهيَّة والتشكيك فيها من خلال إبراز وجود الشر في العالم، لغرض التوصل بذلك إلى إبطالها ومن ثَمَّ إبطال وجود الإله. فكانوا يتساءلون باستمرار: أي حكمة أو مصلحة في خلق الكفر والفسوق والعصيان؟ وخلق الشرور والمؤذيات والآلام والأمراض ؟ وخلق المضار والسموم؟ وخلق إبليس والشياطين؟

يقول ابن الروندي: “إن من أمرض عبيده وأسقمهم فليس بحكيمٍ فيما فعل بهم“. وزَعَمَ أبو العلاء المعري أنَّ: “هذه العُقَد قد جَهد في حلِّها المتكلمون من أهل الشرائع، فلم يجدوا لها انحلالاً، وأصبح مقالهم ضلالاً”. ونجد أنَّ الاحتجاج بوجود الشر للطعن في الحكمة الإلهيَّة استمر عبر العصور، ففي عصر التنوير الأوروبي -مثلاً- كان الفرنسي فولتير يُهاجم الحكمة الإلهيَّة مستشهدًا بوجود الشر. ويُلَخِّص العالم اللاهوتي وفيلسوف الدين جون هيك قيمة ’حجة الشر‘ عند من يستخدمها، فيقول: “يقدم جون ستيوارت مل بوضوحٍ شديدٍ ما يُمكن اعتباره أقوى اعتراض جاد موجه إلى الاعتقاد التوحيدي، وهو: معضلة وجود الشر”.

ولا شك أنَّ قضية وجود الشر ستكون معضلة عند ’المؤمن‘ الذي يفتقد لرؤية إيمانية صحيحة وعقيدة قويمة، أو يُغَلِّب حظوظ نفسه ويسخط على ما قُسِمَ له. يقول المفكر المسيحي جون فاينبرج: “باعتباري مؤمناً شديد الاهتمام والانخراط في دراسة الاعتقاد الديني، فقد كنتُ دائماً أعتبر أنَّ مشكلة وجود الشر هي واحدة من أكثر الصعوبات المربكة التي تواجه المؤمن الذي يريد حقيقة أن يحتفظ بموقف عقائدي يمكن أن يتصف على حدٍ سواء بقبولٍ عقلاني وديني”.

وقد أورد ابن الجوزي ترجمة لأبي الفرج صدقة بن الحسين بن الحسن الحداد، وهو معاصر له، وذكر عنه أنه “كان في صباه قد حفظ القرآن، وسمع شيئًا من الفقه، وكان له فهم، فناظر وأفتى”. ومما حكاه عنه ابن الجوزي يتبين ما يدل على حاله من فقره وعوزه، وأن مصدر رزقه الرئيس كان من نسخ الكتب، قال ابن الجوزي: “كان طول عمره ينسخ بأجرة”. ويبدو أن ذلك الفقر كان مؤثرًا بصورة عميقة في نفس صدقة بن الحسين، فضيَّق نفسه، وجعله يتبرم من حياته وأوضاعه المعيشية البائسة، مما سيكون له انعكاسات خطيرة في حياته. فقد ذكر ابن الجوزي عن صدقة بن الحسين هذا: “أنه كان يظهر من فلتات لسانه ما يدل على سوء عقيدته، وكان لا ينضبط، فكان من يجالسه يعثر منه على ذلك، وكان يخبط الاعتقاد…[و]يعترض على القضاء والقدر”. ويظهر من الكلام الذي سمعه منه شخصيًا ابن الجوزي، وغيره، أنَّ صدقة بن الحسين كان يعاني من شكوك تتعلق بقضية وجود الشر، والاعتراض بسوء الظن على الحكمة الإلهيَّة، وأنه كان متذمرًا من الحياة، كثير الشكوى من الأقدار وضيق الحال، وكان ساخطاً شخصيًا على الله تعالى وتقدس، يخاصمه ويلومه على حاله وفقره! يقول ابن الجوزي: “دخلتُ عليه يومًا وعليه حرير، فقال لي: (ينبغي أن يكون هذا على جمل لا عليَّ أنا). وقال لي يومًا: (أنا لا أخاصم إلا من فوق الفَلَك). وحدثني عنه الظهير ابن الحنفي الفقيه، قال: دخلتُ عليه وهو مضيق، قال: (إني لأفرح بتعثيري)، قلتُ لم؟ قال: (لأن الصانع يقصدني)”. وذكر عنه ابن الجوزي أنَّ حالته المادية تغيرت من الفقر والضيق إلى الغنى والسعة، حينما “اتفق في آخر عمره أن تفقده بعض الأكابر”، لكنه لم يفرح بذلك، بل تسخط على الله من ذلك أيضًا، وقال: “أنا كنتُ أنسخ طول عمري لا أقدر على دجاجة، فانظر كيف بعث لي الدجاج والحلوى في وقت لا أقدر أن آكله”. قال ابن الجوزي معلقًا على تسخطه: “وهذا من جنس اعتراضات ابن الريوندي“.

ومن يقف على ما حكاه ابن الجوزي عنه وما سمعه منه أو عنه، أدرك أن سبب شكوكه التسخط على الله وحكمته، وعدم الرضا بقضائه، وهذا ما دفعه إلى الاعتقاد بأن العالم فوضى بلا حكمة ولا معنى. يقول ابن الجوزي: “حكي عنه أبو يعلى المقرئ، قال: كنا عنده، فَسَمِعَ صوت الرعد، فقال: (فوق خباطٌ، وأسفل خباطٌ)”. وذكر ابن الجوزي أنَّ صدقة بن الحسين كتب إليه قصيدة أنشأها بخطه، كلها تسخط وشكوى من الحياة والأقدار، جاء فيها:

واحيرتا من وجود ما تقدمنا    فيه اختيار ولا علم فتقتبس

مدلفين حيارى قد تكنفنا     جهل تجهمنا في وجهه عبس

وقال ابن الجوزي: “قال أبو يعلى: وقال [صدقة بن الحسين] أبياتًا أخذتها منه بخطه، وهي [ومنها]:

فنــحن ســدى فيــــه بغـــير سيـاســة      نروح ونغدو قد تكنفنا الشر

عمى في عمى في ظلمة فوق ظلمة   تراكمها من دونه يعجز الصبر

ولا تزال هذه التساؤلات مركزيَّة حتى هذا العصر لدى مختلف فئات الشُّكَّاك الذين واجهوا قضية وجود الشر بإيمانٍ ضعيفٍ يُساوقه هشاشة في النفوس. فمثلاً، يقول عالم الفيزياء الفلكيَّة الأمريكي بجامعة كاليفورنيا غريغوري بنفورد: “الموت وتجربة فقدان الأحباء تخترق حتى الحياة الأكثر إرضاءً وأحسن ترتيبًا. توفيت زوجتي في 2002، وانهرت بعد يومين من موتها. وبعد ثلاثة أشهر توفي والدي، وفي غضون عامين آخرين ذهبت أمي كذلك، وأعتقد الآن أنَّ الشَّرَّ ليس مشكلة يمكن حلها، فالكون مكان مظلم ومأساوي“. وكان عبد الله القصيمي يُظهر للآخرين تحسره وتألمه حين يرى المرضى والعجزة والمصابين، ويعترض بذلك على الحكمة الإلهيَّة تشكيكًا في الله وحكمته وأفعاله.

وهنا يجدر الانتباه إلى أنَّ من يدرس هذه القضية دراسة نقدية تحليلية؛ فمن المرجح أن يصل إلى نتيجة مفادها أنَّ الاحتجاج بوجود الشر يستند عند مستخدميه إلى شقين: (أ) شق فلسفي، (ب) وشق نفسي عاطفي. وأزعم أنَّ الطاغي على معظم الملاحدة والشُّكَّاك هو الشق الثاني. ولهذا يقول دينيش دسوزا: “كثيرٌ من قادة الإلحاد الحديث مؤمنون مجروحون بصورةٍ ما في حياتهم. جرحوا من خبرة مأساوية سببت لهم ألمًا بالغًا مما دفعهم لبناء حواجز عقلانية ضد الله”. ويقول أليكس ماكفريلاند: “تذكر دائمًا أن المشكلة مع المتشكك كثيرًا ليست أحد البراهين، لكنها شيء في القلب. وهناك أمر مشترك عند كل أنواع المتشككين، وهو: أنَّ الاعتراضات العقلانية ليست دائمًا هي السبب الخفي وراء عدم الإيمان، ففي كثير من الحالات يسبق تشكك الشخص ألمٌ نفسيٌّ يكون أحيانًا ألمًا عميقًا. قد يصعب على البعض أن يدركوا أن هناك علاقة بين ألمهم وإنكارهم لله”.

 إنَّه يكاد يكون الشعور بالسخط على الحياة، والهشاشة النفسيَّة، والغضب من الأقدار، والإحساس بالعبثية واللامعنى للحياة، سمة مشتركة عند أغلب الملحدين والمتشككين. ومن قرأ سير الملحدين، وَجَدَ ذلك مبثوثًا في تراثهم وأقوالهم ورسوماتهم، بصورة واضحة صريحة أو بصورة خفيَّة مجازيَّة. وقد ألَّف البروفيسور وعالم النفس الأمريكي المعروف بول فيتز، الذي كان نفسه مُلحدًا،كتابًا خاصًّا في هذا الموضوع، بعنوان: Faith of the Fatherless: The Psychology of Atheism ، وقد ترجم إلى اللغة العربيَّة بعنوان: (نفسية الإلحاد؛ إيمان فاقد الأب)، دَرَسَ فيه أثر المعاناة والحرمان والفقد على كثير من الفلاسفة والأدباء والكُتَّاب ودور ذلك في اختيارهم الإلحاد أو الشك، بمعنى أنَّ الموقف الإلحادي أو الشك عند هؤلاء كان موقفًا نفسيًّا وعاطفيًّا بدرجة رئيسة.

وقد تنبه بعض علماء النفس إلى أثر البعد النفسي، الناجم عن المشكلات والمصائب والأحداث المؤلمة التي تولد الغضب في النفس والسخط تجاه القضاء والقدر، ومن ثَمَّ تقوم بتوليد الشك والإلحاد. تقول جولي أكسلين، الطبيبة النفسيَّة بجامعة Case Western University: “تقترح الدراسات الخاصة بالأحداث الأليمة رابطًا معقولاً بين الشك والغضب من الله وبين الشكوك في وجود الله، وبناء على كوك وومبري ۱۹۸۳م فإن ۳۳٪ من الآباء الذي عانوا من موت أبنائهم عبروا عن شكوكهم في الله في السنة الأولى من الفاجعة. وفي دراسة أخرى ٩٠٪ من الأمهات اللاتي ولدن أطفالاً متخلفين عقليَّا شككن في وجود الله. وتركز بحثنا بين الطلاب بصورة مباشرة على الارتباط بين الغضب من الله وضعفات شخصية في الإيمان. وفي صحوة أحداث الحياة السلبية، فإن الغضب الموجه ضد الله ينبىء عن إيمان متناقص في وجود الله”.

إنَّ الباحثة فابيين بروش، التي كانت ملحدة تنكر وجود الإله ثم بعد فترة لاحقة تركت الإلحاد وآمنت بوجود الإله، وكَتَبَتْ بعد ذلك عن تجربتها، ذكرت أنَّ الملحد يعتقد أنه لا وجود لإله، وأن ذلك الافتراض منه يأتي لاعتقاده بأنه شخص ذكي، ومن ثم يجب أن يكون قد وصل إلى هذا الاستنتاج عن طريق التفكير النقدي. ثم تحلل الأسباب الحقيقيَّة الدافعة إلى الإلحاد، مرجعة الأمر إلى أصلين:

الأصل الأول: الأصل المادي، فالمنطق المعتاد لدى الشخص الملحد يقول له: “إذا لم أستطع سماع الشيء، أو رؤيته، أو لمسه، أو شمه، أو الشعور به، فهو إذن غير موجود”. وما دام أنه لا يجد كل ذلك مع الإله فهو غير موجود إذن!

الأصل الثاني: الأصل العاطفي-النفسي، وهو نابع من “مشكلة وجود الشر”، وكيف يسمح الإله بوجد الكثير من المعاناة في العالم؟

وفي الحقيقة، فهذه القضية هي أُسُّ الإلحاد القديم والحديث، ويكاد يكون السبب الرئيس للملاحدة هو سبب نفسي نابع من عدم فهم الحكمة الإلهية من وجود  الشرور في العالم. وتعلق الباحثة فابيين بروش -بعد الإشارة إلى سطحية الشخص الملحد وبُعْدِ تفكيره عن المنطق- بأنَّ على الملحد أن يواجه بجدية سؤالين أساسيين، وعليه أن يحلهما، وهما: ما أصل الحياة؟ وما معناه؟ بمعنى كيف يصير (اللاشيء=المعدوم) شيئًا وموجودًا بنفسه؟! وكيف يكون للحياة معنى من دون وجود الله؟

إنَّ مواجهة وجود الشر في العالم ينعكس بطرق متباينة ومتفاوتة جدًا بصورة عظيمة في النفوس. فيثير في الأنفس المتفائلة المؤمنة: الحاجة الضرورية إلى الخير، والافتقار إلى مصدره، ومعنى الإيمان بالغايات النبيلة، ويكشف لهم حقيقة الحياة وأنها مجرد رحلة قصيرة وجسر للعبور إلى حياة مختلفة كليًّا عما شهوده في هذا الوجود المؤقت. وفي المقابل يثير في النفوس المتشائمة أو الجحودة المتمردة: العدمية، وانتفاء المعنى والغاية من الوجود، والاندفاع نحو الانتهازيَّة وظلم الناس. وكما أن انعكاس وجود الشر في الوجود يختلف في النفوس المتباينة، فكذلك الأثر الناتج عن تلك النفوس وانفعالاتها معه، فالنفوس الأولى تنطلق في الوجود بفرح وصبر، وتنبسط إلى الخارج بالفعل الإيجابي لتخفيف الشر، وأما الثانية فتنقبض إلى الذات وتتقوقع عن الوجود، وتنطوي إلى الذات بفعل هادم ومحطمٍ لا يزيدها إلا عزلة وغربة.

إنَّ قضية وجود الشر في العالم تعتبر من القضايا الفكرية التي تطرح نفسها على العقل في كل عصر، فهي -كما رأيتَ- قديمة جديدة في وقت نفسه، وقد تعرضت لها جميع الأديان السماوية والمذاهب الفلسفية، وتعددت حولها الآراء واختلفت مناهج البحث ووسائل الحل. وقد شغلت حيزاً كبيراً في المذاهب الكلامية والفلسفية وبخاصة في جانبها الأخلاقي، لما لها من أبعاد غيبية، ذلك لأن الخوض في تفسير الخير والشر يتصل اتصالاً وثيقاً بالله تعالى وصفاته، كما أن مناقشة هذه القضية يتطلب التأمل في العالم المنظور وفحص وجوديَّة الشر وحقيقته.

إنَّ الذي يلقي نظرة عاجلة إلى هذا الكون -ويحيط به فرط الحساسيَّة وهشاشة النفس- سيتخيل لأول وهلة أنه عالمٌ طافحٌ بالشَّر، إلى درجة قد تغريه إلى القول إن الحياة ما هي إلا مأساة وعذاب. وهذا مما دفع كثيرًا من العلماء إلى محاولة تفسير وجود الشر بما يتوافق مع خيريَّة الله وحكمته العظيمة وصفاته الكريمة، ومن هنا نشأت موضوعات تناقش وتعالج قضية وجود الشر، وتحقيق ماهية، والتوفيق بين عناية الله ووجود الشر في الكون.  وكل ذلك من أجل تقديم إجابة شافية للإنسان الذي يسأل ويقول: إذا كان الله تعالى لا يفعل إلا الحكمة، ولا يضع الشيء إلا في محله، فلماذا وجدت الشرور بأنواعها؟ ألم يكن من الأليق بالحكمة خلو هذا الكون من الشر؟

وفي هذه المقالة، سوف نبين -باختصارٍ شديدٍ- معنى الشر، واعتقاد أهل السنة والجماعة في الحكمة والأفعال الإلهيَّة، مع ذكر ملخص لقواعد أساسيَّة في فهم قضية وجود الشر في العالم، وأصول سُنِّيَّة يقوم عليها تنزيه القضاء الإلهي عن الشر والعبث.

[1] معنى الشر:

الشَّرُّ في اللغة: من الشرر، والشَّرَارَةُ بالفتح واحدة الشرار وهو ما يتطاير من النار، والمُشَارَّةُ المخاصمة، والشُّرُّ بالضم: المكروه، وبالفتح: إبليس، والحمى، والفقر. والشر: اسم جامع للرذائل والآثام، وهو نقيض الخير، وهو السوء والحيف والفساد، والشرير هو الشيطان. فالشر في اللغة يشير إلى الأذى أو الخطر الذي يصيب الإنسان ويحدق به مادياً كان أو معنوياً.

والقرآن الكريم يطلق كلمة الشر ويريد بها معانٍ عدة، وهي: الكفر والضلال، والمؤذيات والآلام، والعذاب الأخروي وأهوال يوم القيامة.

ويوضح ابن قيم الجوزيَّة حقيقة الشر فيقول: “الشر ما هو؟ وما حقيقته؟ فنقول: الشر يقال على شيئين: على الألم، وعلى ما يفضي إليه، وليس له مسمى سوى ذلك.  فالشرور هي الآلام وأسبابها، فالمعاصي والكفر والشرك وأنواع الظلم هي شرور، وإن كان لصاحبها فيها نوع غرض ولذة، لكنها شرور، لأنها أسباب للآلام ومفضية إليها، كإفضاء سائر الأسباب إلى مسبباتها.. .  والمقصود أن هذه الأسباب التي فيها لذة ما هي شر، وإن نالت بها النفس مسرة عاجلة، وهي بمنزلة طعام لذيذ شهي لكنه مسموم”.

والآلام عند ابن قيم الجوزيَّة تنقسم إلى قسمين: آلام نفسية روحية كالهموم والغموم والأحزان والحسرات، وآلام حسيَّة تقع على البدن.

ومن يتأمل قضية الشر ووجوده، يجد أنها بعينها هي قضية القضاء والقدر معادة في عبارة مختلفة، فالله هو مقدر الخير والشر، وهو الذي كتبه على الإنسان، فهل الإنسان محاسب على هذا الذي كتب عليه وقضي به؟ من الذي فعل الشر الله أم العبد؟ وبأي نسبة يُقرن وجود الشر بالله؟ وهل العبد يتحمل مسؤولية الشر الموجود؟ وغيرها من الأسئلة.  ولذلك حينما يناقش موضوع القدر فلا بد أن يناقش موضوع وجود وخلق الشر، فقضية الشر متصلة ومرتبطة بالقضاء والقدر ارتباطاً لا ينفك.

وكان أسعد الناس بالصواب في هذا الباب من تلقى علمه من مشكاة الوحي المبين، وأفلح من جمع بين الملك والحمد، والربوبية والإلهية، والحكمة والقدرة، فأثبت الله تعالى الكمال المطلق ووصفه بالقدرة التامة الشاملة، والمشيئة العامة النافذة، كما أثبت له سبحانه الحكمة البالغة التي ظهرت في كل موجود، والعدل الإلهي الذي يعطي كل شيء حقه ومقداره، فجمع بين العدل والتوحيد، والقدر والأمر والنهي.

وقد أسَّسَ أهل السنة والجماعة موقفهم من قضية وجود الشر في العالم وفهمها، من خلال قواعد واضحة مؤسسة على القرآن الكريم والسنة المطهرة وفهم الصحابة والسلف رضوان الله عليهم، وكان من منهجهم الجمع بين كمال القدرة الإلهية، وتمام الحكمة والعدل، فالله تعالى هو خالق كل شيء، وليس هناك شيء يخرج عن قدرته ومشيئته، كما أنه سبحانه هو العادل الحكيم في كل ما خلقه وقدره.

[2] قواعد أساسيَّة في فهم قضية وجود الشر في العالم:

أولاً: خالقية الله لكل شيء.

فقد أجمع أهل السنة والجماعة على أن الله خالق كل شيء، وأن كل شيء بقضائه وقدره، الخير والشر، والحلو والمر، ولا يخرج شيء عن مشيئته، وليس في العالم شيء يخرج عن تقديره، بل كل شيء يصدر عـن تدبيره، والمؤمن مطالب أن يؤمن بالقدر خيره وشره؛ لأنه كله من الله.

يقول ابن تيميَّة واصفًا مذهب أهل السنة والجماعة: “فيؤمنون بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو على كل شيء قدير، أحاط بكل شيء علماً، وكل شيء أحصاه في كتاب مبين، ويتضمن هذا الأصل من إثبات علم الله، وقدرته، ومشيئته، ووحدانيته، وربوبيته، وأنه خالق كل شيء وربه ومليكه ؛ ما هو من أصول الإيمان”.

ثانياً: العدل والظلم. 

ذهبت إحدى الطوائف الكلاميَّة إلى أنَّ حقيقة العدل هو الممكن، وبذلك أبطلوا حقيقة الظلم، وجعلوا الله لا يتنزه عن كل مقدور ممكن ولو كان قبيحاً في نفسه، فعطلوا العدل الإلهي، وأضافوا الظلم والقبيح إلى الله. كما ذهبت طائفةٌ كلاميَّةٌ أخرى -يدفعهم فهمهم الخاص للعدالة الإلهية- إلى إخراج أفعال العباد عن قضاء الله وقدره؛ بزعمهم أن ذلك يحقق عدل الله وينزهه عن الظلم. أما أهل السنة والجماعة فإنهم أثبتوا ما أثبته القرآن الكريم والسنة المطهرة، فجمعوا بين عدل الله وتوحيده، فالله تعالى يتصرف في خلقه بملكه وحمده وعدله وإحسانه فهو سبحانه على صراط مستقيم، في قوله، وفعله، وشرعه، وقدره، وثوابه وعقابه، لأنه تعالى يقول الحق ويفعل العدل. “فهذا العدل والتوحيد الذي دل عليه القرآن لا يتناقضان، وأما توحيد أهل القدر والجبر وعدلهم، فكل منهما يبطل الآخر ويناقضه”.  وحقيقة العدل عند أهل السنة والجماعة: وضع الأشياء في مواضعها التي تليق بها وإنزالها منازلها. وحقيقة الظلم عندهم: وضع الشيء في غير موضعه.

والله سبحانه عند أهل السنة قادر على الظلم، وإنما استحق سبحانه الحمد والثناء لأنه ترك الظلم وهو قادر عليه، والمدح إنما يكون بترك المقدور عليه لا بترك الممتنع والمستحيل كما ذهبت إلى بعض الطوائف الكلاميَّة، فالله يتنزه عن الظلم مع مقدرته عليه، لكنه يحكم بالعدل وبمقتضى الحكمة، ولذلك يضع الشيء في موضعه، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسئ بإساءته، ولا يظلم أحداً مثقال ذرة، ولا يعاقب أحداً بما لم يجنه ولا يهضمه ثواب عمله، فهو سبحانه المحمود على فعل العدل، وعلى ترك الظلم.

يقول ابن قيم الجوزيَّة: “اسمه السلام، فإنه الذي سلم من العيوب والنقائض…ومن موجبات وصفه بذلك: سلامة خلقه من ظلمه لهم، فسلم سبحانه من إرادة الظلم والشر، ومن التسمية به، ومن فعله، ومن نسبته إليه، فهو السالم من صفات النقص وأفعال النقص وأسماء النقص، المسلم لخلقه من الظلم…ومن أسمائه سبحانه العدل والحكيم الذي لا يضع الشيء إلا في موضعه، فهو المحسن الجواد الحكيم، الحكم العدل في كل ما خلقه وفي كل ما وضعه في محله وهيأه له”.

فالله أعدل العادلين في قضائه بالسبب، وقضائه بالمسبب، فما قضي في عبده بقضاءٍ إلا وهو واقعٌ في محله الذي لا يليق به غيره، إذ هو سبحانه الحكم العدل الغني الحميد، الذي لا يتصرف إلا بالعدل والحكمة والمصلحة والرحمة، فلا يظلم مع قدرته عليه، وكل شيء تحت تصرفه، لكنه سبحانه العدل في قضائه، الحكيم فيما يخلق ويفعل. وإذا كان الله عادلاً وحكيماً، فإنه لن يظلمهم في شيء، ولذلك الله تعالى لا يجبر عباده على أعمالهم، بل ترك لهم حرية الاختيار، فللعبد حرية اختيار طريق الخير، كما أن له الحرية في اختيار طريق الشر. ولذلك اعتقاد أهل السنة والجماعة أن الله قادر على عباده بما يشاء، لكنه سبحانه لا يشاء إلا العدل، فهو مع كمال تصرفه في خلقه يتصرف بالعدل والحكمة، فلا يكلف الإنسان ما لا يطيق، ولا يحمل عليه ذنب غيره، ولا يأخذه بجريرة أحد، بل يجازي المحسن بإحسانه والمسئ بإساءته، ولا يظلم مثقال ذرة.

يقول ابن قيم الجوزيَّة: “العبد محدث لفعله بإرادته واختياره وقدرته حقيقة، والله خالق ذلك له حقيقة، وخالق السبب خالق للمسبب، ولو لم يشأ سبحانه وجود فعله لما خلق له السبب الموجد له”.

ثالثاً: خيرية الأفعال الإلهية. 

أفعال الله تعالى كلها خير عند أهل السنة والجماعة، ولا يضاف إليه الشر، لأنه سبحانه منزه عن الشر، ولا يفعل إلا الخير، فلا ينسب إلى الله تعالى الشر لا فعلاً ولا تقديراً ولا حكماً، بل الشر في مفعولاته لا في فعله، ففعله كله خير وحكمة، والقدر كله من الله لكنه من حيث نسبته إلى الله لا شر فيه بوجه من الوجوه، لأنه علم الله، وكتابته، ومشيئته، وخلقه، وذلك خير محض، وكمال من كل وجه، فالشر ليس إلى الله بوجه من الوجوه، لا في ذاته، ولا في أسمائه ولا صفاته، ولا في أفعاله، فالشر في المقضي لا في القضاء، وفي المخلوقات لا في الخلق، وفي المفعولات لا في الفعل.  قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت“. خرجه مسلم في صحيحه

فأفعال الله تعالى كلها خير، هذا هو اعتقاد أهل السنة والجماعة، فالشر عندهم لا يضاف إلى الله ولا إلى فعله وقضائه وقدره وخلقه، لأن كل ذلك خير، والشر لا يسمى شراً إلا إذا انقطعت نسبته إلى الله وإضافته، فهو سبحانه منزه عن كل شر وسوء وظلم، لأن الشر ليس إليه، والخير كله في يديه.

وقال الحافظ اسماعيل الأصبهاني: “الخلق غير المخلوق، فالخلق صفة لذاته، والمخلوق محدث”. وبهذه التفرقة تتقرر خيرية الأفعال الإلهية، مع وجود الشر في العالم، لأن الشر إنما هو موجود في بعض المفعولات والمخلوقات، ولا وجود للشر ألبتة في الفعل والقضاء الإلهي، والله سبحانه منزه عن الشر من كل وجه.

لكن! لم خلق الله بعض الأشياء في الوجود وهي شر؟

يجيب ابن قيم الجوزيَّة على هذا السؤال وفق القاعدة السابقة القائمة على التفرقة بين الفعل القائم بالله، والمفعول المنفصل المباين عنه، فيقول: “خلقه له وفعله خير لا شر، فإن الخلق والفعل قائم به سبحانه، والشر يستحيل قيامه به واتصافه به، وما كان في المخلوق من شر فلعدم إضافته ونسبته إليه، والفعل والخلق مضاف إليه، فكان خيراً، والذي شاءه كله خير، والذي لم يشأ وجوده بقي على العدم الأصلي وهو الشر…فالخير في الصفات والأفعال، والشر في المفعولات لا في الأفعال، فأوصافه كلها كمال، وأفعاله كلها خيرات…فأفعاله تعالى خير كلها، وعدل ومصلحة وحكمة لا شر فيها بوجه من الوجوه، أما مفعولاته فهي مورد الانقسام -أي إلى خير وشر- وهذا إنما يتحقق على قول أهل السنة: إن الفعل غير المفعول، والخلق غير المخلوق، كما هو الموافق للعقول، والفطرة، واللغة، ودلالة القرآن والحديث، وإجماع أهل السنة”.

 

رابعًا: أصل الشر وحقيقته ومصدره. 

إذا كانت جميع الأفعال الإلهية خير وحكمة، فما مصدر الشر؟ وما هو أصله؟

حقيقة الشر بالنسبة للفعل الإلهي: “وضع الشيء في غير محله، فإذا وضع في محله لم يكن شراً”.  وإذا كان الشر بالنسبة للفعل الإلهي هو وضع الشيء في غير موضعه، فإنه لا شر بوجه من الوجوه في الأفعال الإلهية، لأن الله سبحانه لا يضع الشيء إلا في موضعه حكمة منه وعدلاً، وهذا كله خير لا شر فيه، وبذلك يتضح تنزه أفعال الله عن الشر.

أما حقيقة الشر بالنسبة للعباد وما يصدر عنهم، فهو: “الذنوب وعقوباتها”. وإذا كان الشر حقيقةً هو الذنوب والمعاصي، فإن مصدر ذلك معروف حينئذٍ، فإن الذنوب والمعاصي ومخالفة الشرع والآوامر والنواهي إنما تصدر من النفس المكلفة، فالنفس هي مصدر الشر الحقيقي. فالشر له مصدر يبتدئ منه، وغاية ينتهي إليها، فمصدره إما من نفس الإنسان، وإما من الشيطان، وغاية الشر أن يعود على صاحبه أو على عبد آخر.

يقول ابن قيم الجوزيَّة: “الخير كله من الله والشر كله من النفس، فإن الشر هو الذنوب وعقوباتها، والذنوب من النفس، وعقوباتها مترتبة عليها، والله هو الذي قدر ذلك كله وقضاءه، وكل من عنده قضاءً وقدراً، وإن كانت نفس العبد سببه، بخلاف الخير والحسنات فإن سببها مجرد فضل الله ومنته وتوفيقه”.

خامساً: الإرادة الإلهية وتعلقها بالشر. 

عند أهل السنة والجماعة يمتنع إطلاق إرادة الشر على الله وفعله، نفياً وإثباتاً، لما في إطلاق لفظ الإرادة والفعل من إيهام المعنى الباطل، ونفي المعنى الصحيح، فإن الإرادة تطلق بمعنى المشيئة وبمعنى المحبة والرضا. فالإرادة بالمعنى الأول تستلزم وقوع المراد ولا تستلزم محبته والرضا به، أما بالمعنى الثاني لا تستلزم وقوع المراد ولكن تستلزم محبته والرضا به، هذا إذا تعلقت الإرادة بأفعال العباد، وأما إذا تعلقت بأفعال الله تعالى فإنها لا تنقسم، بل كل ما أراده من أفعاله فهو محبوبٌ مرضيٌ له، ففرقٌ بين إرادة أفعاله وإرادة مفعولاته؛ فإن أفعاله خير كلها، وعدل ومصلحة وحكمة لا شر فيها بوجه من الوجوه، وأما مفعولاته فهي مورد الانقسام إلى محبوبة ومبغوضة، وخير وشر.

فيُنسب إلى الله الخير دائماً دون الشر، لأن الخير كله من الله، والشر كله من نفس الإنسان، والشر لا يضاف إلى الله إرادة ولا محبة ولا فعلاً ولا وصفاً ولا اسماً، فإنه سبحانه لا يريد إلا الخير ولا يحب إلا الخير، ولا يفعل شراً ولا يوصف به ولا يسمى باسمه. وامتناع إطلاق القول نفياً وإثباتاً إن الرب سبحانه مريدٌ للشر وفاعل له، وذلك خلافاً لموقف القدرية الذين أطلقوا القول نفياً، أو موقف الجبرية الذي أطلقوا القول إثباتاً. والصواب في المسألة التفصيل، فحينما يريد الله أفعال نفسه ؛ أي إذا تعلقت إرادته بأفعاله تعالى فإنها لا تنقسم إلى خير وشر، بل كل ما أراده الله من أفعال نفسه فهو خير ومحبوب ومرضي له، أما إذا تعلقت إرادته سبحانه بأفعال العباد فإنها حينئذ تنقسم إلى قسمين: الإرادة التي بمعنى المشيئة، وهذه تستلزم وقوع المراد ولا تستلزم محبته والرضا به. والإرادة التي بمعنى المحبة والرضا، وهذه لا تستلزم وقوع المراد، وتستلزم محبته والرضا به.

فالشر الموجود في هذا العالم داخل في الإرادة الأولى التي هي مشيئة الرب المتعلقة بخلقه وأمره الكوني، فهي شاملة لكل موجود لا يخرج عنها شيء الخير والشر على حد سواء، فالشرور : كإبليس والشياطين والأشرار، والأعيان والأفعال التي هي شر كلها داخلة في مشيئة الله لكنها مسخوطة مكروهة لله، لأن المشيئة شاملة لكل شيء خيراً كان أو شراً، فهي تستلزم وقوع كل ما أراده الله، فالخير الواقع بها محبوب لله، والشر الواقع بها مكروه مسخوط لله.

كيف يُضاف الشر إلى الله؟ 

الشر لا يضاف إلى الله تعالى وصفاً ولا فعلاً، ولا يتسمى باسمه بوجهٍ من الوجوه، وإن كان هو سبحانه خالقه ومكونه، فإنما الشر يدخل في بعض مفعولاته، ولذلك فالشر لا يضاف إلى الله مفرداً، وإنما يضاف إلى الله تعالى على أحد وجوه ثلاثة:

الأول: دخول الشر في المفعولات بطريق العموم، كقوله تعالى: (مِن شَرِّ مَا خَلَقَ)، أي : من شر الذي خلقه، أو من شر مخلوقه. فيضاف الشر بطريق العموم، لأنه داخل في عموم ما خلقه الله، وقدرة الله ومشيئته وخلقه عامة للخير والشر، ودخول الشر في العموم هو مقتضي حكمة الله وعدله.

الثاني: أن يحذف فاعل الشر، كقوله تعالى حكاية عن مؤمني الجن: (وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا).

الثالث: أن يسند إلى محله القائم به، كقول إبراهيم الخليل عليه السلام: (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ).

سادساً: أفعال الله تابعة لحكمته. 

يعتقد أهل السنة والجماعة أن أفعال الله سبحانه وتعالى تابعة لحكمته التي لا يخل بها، وأنها مقصودة لغايتها المحمودة، وعواقبها الحميدة، فالله تعالى هو الفعَّال لما يريد، ولكن لا يريد أن يفعل إلا ما هو خير ومصلحة ورحمة وحكمة، فلا يفعل الشر ولا الفساد، ولا الجور، ولا خلاف مقتضى حكمته، لكمال أسمائه وصفاته، وهو الغني الحميد العليم الحكيم، ولذلك ليس في أفعاله باطل، بل أفعاله سبحانه بريئة من الباطل.

ولهذا فإن القضاء الإلهي خير كله، لأن مصدره علم الله وحكمته وكماله، فهو خير كله ومصلحة وحكمة وعدل ورحمة، ودخول الشر فيه بالعرض لا بالذات؛ كالشر العارض في الحر والبرد والمطر والنار، فإنه ليس مقصوداً بذاته بل لحكمة ومصلحة عظيمة، ولو لم يخلقه الله لفاتت تلك الحكمة والمصلحة، وليس في الحكمة تفويت تلك الحكم والمصالح التي تترتب على الشر الجزئي، فوجود ذلك الشر العرضي الجزئي خير وحكمة من عدمه، لما في عدمه من تفويت حكم وغايات حميدة وعظيمة ؛ لأن وجود الشيء لا يكون إلا مع وجود لوازمه، فالله سبحانه حكيم لا يفعل عبثاً ولا لغير معنى ومصلحة، بل أفعاله صادرة عن حكمة بالغة لأجلها فعل، والحكمة تقتضي وجود الشر الجزئي في مقابل الخير الكثير لتحقيق حكم ومصالح عظيمة، وذلك كله خير.

فالأفعال الإلهية تابعة لحكمة الله سبحانه، وإذا كانت كذلك فهي حسنة وخيرية لما يترتب عليها من المصالح والغايات الحميدة، وكما أن الله منزه عن العبث فهو تعالى منزه عن أن يخلق شراً لا خير فيه بوجهٍ من الوجوه.

وهذا الفهم لحقيقة القضاء الإلهي وحقيقة الأفعال الإلهية يولد نفوساً شديدة التفاؤل، وقلوباً مفعمة بحب الكفاح في الحياة، وحب ما فيها من آثار رحمة الله تعالى ومظهر حكمته، حتى إن تلك النفوس المؤمنة المتفائلة لتلتمس حكمة الله في الشر كما تترصدها في الخير، إن هذا الفهم الإيماني الذي يولد في النفس حب التفاؤل وتغليب الخير على الشر هو الذي جعل أعلام السلف الصالح يصبرون ويتجلدون على ما يمر بهم في حياتهم من أحداث ومصائب ما كانوا يطيقونها لولا ثقتهم برحمة الله وحكمته البالغة وقضاءه العادل الذي كان يُشِيع في نفوسهم الأمل والرجاء وكان ذلك الإيمان لهم أجمل العزاء.

 وهذا بخلاف أهل الشك والريب والظنون، الذين يغلبون التشائم والسوداوية إنكارًا ، بلسان الحال أو المقال، لحقيقة الرحمة والحكمة الإلهية، فإنهم حين يرون الابتلاءات لا يزيدهم ذلك إلا شكًّا وريبًا. ولهذا، كان الجهم بن صفوان حين يقف على المصابين بمرض الجذام، فيشاهد ما هم فيه من البلايا والآلام، يجيش في نفسه الإنكار والإعتراض، فيقول: “أرحم الراحمين يفعل مثل هذا؟‍‍‍‍‍‍!“. ومتى ما تحكم هذا الشعور التشاؤمي بالنفوس فقد آذن عليها بالخراب، فهذا الموقف النافي للحكمة، والمنكر للرحمة؛ مما يحبط النفوس ويتلف الأرواح ويدمر المعنويات، وينشر الفوضى والتشائم.

سابعًا: أصول سُنِّيَّة يقوم عليها تنزيه القضاء الإلهي عن الشر والعبث. 

(1) علم الله: وهو الأصل الأول، وهو إثبات عموم علمه سبحانه وإحاطته بكل معلوم، وأنه لا تخفى عليه خافية، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، بل قد أحاط بكل شيء علماً وأحصى كل شيء عدداً. فهذا الأصل يتضمن إثبات عموم علمه سبحانه الذي لا يشاركه فيه خلقه، ولا يحيطون بشيء منه إلا بما شاء أن يطلعهم عليه ويعلمهم به، وما أخفاه عنهم ولم يطلعهم عليه لا نسبة لما عرفوه إليه إلا دون نسبة قطرة واحدة إلى البحار كلها، فنسبة علوم الخلائق إلى علمه سبحانه كنسبة قدرتهم إلى قدرته، وغناهم إلى غناه، وحكمتهم إلى حكمته، فإن علوم الخلائق تضمحل وتتلاشى في علمه سبحانه. ولذلك فمن أظلم الظلم وأبين الجهل وأقبح القبيح أن يعترض من لانسبة لعلمه إلى علوم الناس التي لا نسبة لها إلى علوم الرسل التي لا نسبة لها إلى علم رب العالمين على الله، فيقدح في حكمته سبحانه، ويظن أن الصواب والأولى أن يكون غير ما جرى به قلمه وسبق به علمه، وأن يكون الأمر بخلاف ذلك، فسبحان الله تنزيهاً لربوبيته وإلهيته وعظمته وجلاله عما لا يليق به من كل ما نسبه إليه الجاهلون الظالمون. يقول ابن قيم الجوزيَّة: “فهذا أصلٌ يجب التمسك به في هذا المقام، وأن يعرف أن عقول العالمين ومعارفهم وعلومهم وحكمهم تقصر عن الإحاطة بتفاصيل حكمة الرب تعالى في أصغر مخلوقاته”.

(2) حياة الله: وهو الأصل الثاني، وهو أنه سبحانه حي حقيقة، وحياته أكمل الحياة وأتمها، وهي حياة تستلزم جميع صفات الكمال ونفي أضدادها من جميع الوجوه، ومن لوازم الحياة الفعل الاختياري، فإن كل حيٍّ فعَّال، وصدور الفعل عن الحي بحسب كمال حياته ونقصها، وكل من كانت حياته أكمل من غيره كان فعله أقوى وأكمل، وكذلك قدرته ولهذا كان الله تعالى على كل شيء قدير، وهو فعال لما يريد.

(3) الفعل الاختياري: وهو الأصل الثالث، فإذا كانت الحياة مستلزمة للفعل، فالفعل الذي لا يعقل الناس سواه هو الفعل الاختياري الإرادي الحاصل بقدرة الفاعل وإرادته ومشيئته، وما يصدر عن الذات من غير قدرةٍ منها ولا إرادة لا يسميه أحد من العقلاء فعلاً وإن كان أثراً من آثارها ومتولد عنها، كتأثير النار في الإحراق وغير ذلك. “فالفعل والعمل من الحي العالم لا يقع إلا بمشيئته وقدرته، وكون الرب تعالى حياً فاعلاً مختاراً مريداً مما اتفقت عليه الرسل والكتب، ودل عليه العقل والفطرة، وشهدت به الموجودات ناطقها وصامتها، جمادها وحيوانها، علويها وسفليها، فمن أنكر فعل الرب الواقع بمشيئته واختياره وفعله فقد جحد ربه وفاطره، وأنكر أن يكون للعالم رب”.

(4) السببية: وهي الأصل الرابع، وهو أنه سبحانه ربط الأسباب بمسبباتها شرعاً وقدراً، وجعل الأسباب محل حكمته في أمره الديني الشرعي وأمره الكوني القدري، ومحل ملكه وتصرفه. فإنكار الأسباب والقوى والطبائع جحد للضروريات، وقدح في العقول والفطر، ومكابرة للحس وجحد للشرع والجزاء، فقد جعل الله تعالى مصالح العباد في معاشهم ومعادهم، والثواب والعقاب، والحدود والكفارات، والأوامر والنواهي، كل ذلك مرتبطاً بالأسباب قائماً بها، بل العبد نفسه وصفاته وأفعاله سببٌ لما يصدر عنه بل الموجودات كلها أسبابٌ ومسببات، والشرع كله أسباب ومسببات، والمقادير أسباب ومسببات، والقدر جارٍ عليها متصرف فيها، فالأسباب محل الشرع والقدر. فالله سبحانه رتب حصول الأشياء على أسبابها، وبدون هذه الأسباب تنعدم هذه الأشياء، ويكون في انعدامها فوات خير عظيم، والأسباب قد يكون منها ما هو شر إضافي جزئي، لكن في وجوده خير راجح لما سيترتب عليه من خيرات عظيمة وكثيرة لا يكون حصولها إلا بهذا السبب، فهذه التي قد تسمى شروراً هي في الحقيقة أسباب يتوصل بها إلى مسبباتها التي هي خير أعظم.

(5) الحكمة الإلهيَّة: وفيها إثبات أنه سبحانه حكيم لا يفعل شيئاً عبثاً ولا لغير معنى ومصلحةٍ وحكمةٍ هي الغاية المقصودة بالفعل، بل أفعاله سبحانه صادرة عن حكمةٍ بالغة لأجلها فعل، كما هي ناشئة عن أسباب بها فعل، فالله سبحانه حكيم في خلقه وأمره، ويفعل لأجل الغايات المطلوبة والعواقب الحميدة. فالآلام والأمراض وإن كانت شروراً من وجه، فهي خيرات من وجوه عديدة، فالخير والشر من جنس اللذة  والألم، والنفع والضرر، وذلك في المقضي المقدر لا في نفس صفة الرب وفعله القائم به، فإن قطع يد السارق شر مؤلم ضار له، وأما قضاء الرب ذلك وتقديره عليه فعدل خير وحكمة ومصلحة، فهذه الآلام والمؤذيات قد تكون شراً بالنسبة إلى محلها، لكنها تكون خيراً إلى ما سواه، بل قد تكون خيراً على نفس المحل، فهي شر من وجه وخير من الوجه الآخر، فقطع يد السارق إن كان فيه ألم للسارق وضرر وشر، فهو خير للمجتمع كله والذي سينتفع بذلك، بل السارق نفسه له في ذلك ألم خير وهو كفارة له وعبرة. فالله سبحانه وتعالى لم يخلق الآلام واللذات سدى، ولم يقدرهما عبثاً، ومن كمال قدرته وحكمته أن جعل كل واحد منهما تثمر الأخرى، هذا ولوازم الخلقة يستحيل ارتفاعها كما يستحيل ارتفاع الفقر والحاجة والنقص عن المخلوق، فلا يكون المخلوق إلا فقيراً محتاجاً ناقص العلم والقدرة، فلو كان الإنسان وغيره من الحيوان لا يجوع ولا يعطش ولا يتألم في عالم الكون والفساد لم يكن حيواناً، ولكانت هذه الدار دار بقاء ولذة مطلقة كاملة، والله لم يجعلها كذلك، وإنما جعلها داراً ممتزجاً ألمها بلذتها، وسرورها بأحزانها، وغمومها وصحتها بسقمها، حكمة منه بالغة سبحانه وتعالى. ومما أثبتته الدراسات الطبيَّة أن كثيرًا من الأمراض التي تصيب الإنسان والحيوان، تفيده غاية الإفادة، وتكسبه مناعة ومقامة ضد الأمراض المشابهة، وبذلك يتقوى جسمه أكثر مما هو عليه قبل المرض. يقول ابن قيم الجوزيَّة: “ولما كانت الآلام أدوية للأرواح والأبدان كانت كمالاً للحيوان، خصوصاً لنوع الإنسان، فإن فاطره وبارئه إنما أمرضه ليشفيه، وإنما ابتلاه ليعافيه، وإنما أماته ليحييه، فهو سبحانه يسوق الحيوان والإنسان في مراتب الكمال طوراً بعد طور إلى آخر كماله، بأسباب لا بد منها، وكماله موقوف على تلك الأسباب، ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع، كوجود المخلوق بدون الحاجة والفقر والنقص، ولوازم ذلك ولوازم تلك اللوازم”. كذلك أثبتت الدراسات والتجارب النفسية أن الآلام والمعاناة في هذا العالم هي السبيل الوحيد لصقل النفس واكتساب القدرة على تجاوز آلام أعظم من سابقتها، وأن الآلام وتحملها يقود الإنسان إلى النجاح وتخطي أكثر الخيارات إيلاماً. يقول الدكتور والطبيب النفسي بول هوك: “الحقيقة أنَّ أولئك الناس المستعدين لتلقي العناء هم في الواقع أقل الناس مقاساة له، وأن أولئك الذين يتهربون من مواجهته هم الذين يقاسون أكثر…تحمل الألم بكياسة، فهو الثمن الذي يتوجب عليك دفعه أحياناً مقابل الوصول إلى الأفضل”.

(6) الرحمة الإلهيَّة: فرحمته سبحانه غلبت الغضب، والعفو سبق العقوبة، والنعمة تقدمت المحنة، والخير في صفاته وأفعاله، والشر في المفعولات لا في الأفعال، فأوصافه كلها كمال وأفعاله كلها خيرات، فإن آلم الإنسان أو الحيوان لم يعدم بألمه عافية من ألم هو أشد من ذلك الألم، أو تهئية لقوة وصحة وكمال، أو عوضاً لا نسبة لذلك الألم إليه بوجه ما. فأعظم اللذات ثمرات الآلام ونتائجها، وأعظم الآلام ثمرات اللذات ونتائجها، فسنة الله هي ترتيب الجزاء على العمل، واللذة بعد الألم، وقد أجرى الله سبحانه سنته وعادته أن حلاوة الأسباب في العاجل تعقب المرارة في الآجل، ومرارتها تعقب الحلاوة، فحلو الدنيا مر الآخرة، ومر الدنيا حلو الآخرة، وقد اقتضت حكمته سبحانه أن جعل اللذات تثمر الآلام، والآلام تثمر اللذات، والقضاء والقدر منتظم لذلك انتظاماً لا يخرج عنه شيء البتة، والشر مرجعه إلى اللذات وأسبابها، والخير المطلوب هو اللذات الدائمة والشر المرهوب هو الآلام الدائمة، فأسباب هذه الشرور وإن اشتملت على لذة ما، وأسباب تلك خيرات وإن اشتملت على ألم ما، فألم تعقبه اللذة الدائمة أولى بالإيثار والتحمل، من لذة يعقبها الألم الدائم.

(6) الامتحان الإلهيَّ: يقول ابن قيم الجوزيَّة: “سبحانه أخبر أنه خلق السماوات والأرض العالم العلوي والسفلي ليبلونا أينا أحسن عملاً، وأخبر أنه زين الأرض بما عليها من حيوان ونبات ومعادن وغيرها لهذا الابتلاء، وأنه خلق الموت والحياة لهذا الابتلاء وهي دار التكليف ولما سبق في حكمته أن الجنة دار نعيم لا دار ابتلاء وامتحان، جعل قبلها دار الابتلاء، فكان هذا الابتلاء غاية الخلق والأمر، فلم يكن من بد من دار يقع فيها هذا الابتلاء جسراً يعبر عليه إليها، ومزرعة يبذر فيها وميناء يزود منها، وهذا هو الحق الذي خلق الخلق به ولأجله وهو أن يعبد وحده بما أمر به على ألسنة رسله، فأمر ونهى على ألسنة رسله، ووعد بالثواب والعقاب، ولم يخلق خلقه سدى لا يأمرهم ولا ينهاهم ولا يتركهم هملا، لا يثيبهم ولا يعاقبهم، بل خلقوا للأمر والنهي والثواب والعقاب، ولا يليق بحكمته وحمده غير ذلك”.

 

ثامنًا: الشر الذي يدخل إلى الوجود والشر الذي يتنزه القضاء الإلهي عن وجوده.

تنقسم الموجودات من حيث مدى إمكانية دخولها إلى الوجود إلى:

(1) شراً من كل وجه.

(2) خيراً من وجهٍ وشراً من وجه، وهذا ينقسم إلى:

أ-قسم خيره راجح على شره.

ب-وقسم شره راجح على خيره.

ج-وقسم مستوٍ خيره وشره.

(3) ما لا يكون فيه خير ولا شر.

فهذه الأقسام لا يدخل منها في الوجود إلا ما كانت المصلحة والحكمة والخير في إيجاده أكثر من المفسدة، فالشر الراجح على الخير، والشر المساوي للخير، وما لا يكون فيه خير ولا شر؛ لا تدخل في الوجود، أما الشر المحض الذي لا خير فيه فذاك ليس له حقيقة بل هو العدم المحض، فالذي يدخل في الوجود هو الخير الراجح على الشر.

ويطرح ابن قيم الجوزيَّة سؤالاً؛ وهو: “فإن قيل: فإبليس شر محض، والكفر والشرك كذلك، وقد دخلوا في الوجود، فأي خير في إبليس وفي وجود الكفر؟

قيل: في خلق إبليس من الحكم والمصالح والخيرات التي ترتبت على وجوده ما لا يعلمه إلا الله…فالله لم يخلقه عبثاً ولا قصد بخلقه إضرار عباده وهلاكهم، فكم لله في خلقه من حكمة باهرة، وحجة قاهرة، وآية ظاهرة، ونعمة سابغة، وهو وإن كان للأديان والإيمان كالسموم للأبدان ففي إيجاد السموم من المصالح والحكم ما هو خيرٌ من تفويتها.

فالوجود لا يكون فيه ألبتة شرٌّ محضٌ، كما لا يكون فيه الذي لا خير فيه ولا شر؛ لأنه عبث والله يتعالى عنه ويتنزه، وإذا امتنع دخول هذا القسم في الوجود فدخول ما الشر في إيجاده أغلب من الخير أولى بالامتناع. ولذلك من تأمل هذا الوجود علم أن الخير فيه غالب، فإن الأمراض وإن كثرت فالصحة أكثر منها، واللذات أكثر من الآلام، والعافية أعظم من البلاء، والغرق والحرق والهدم وإن كثرت فالسلامة أكثر، ولو لم يوجد هذا القسم الذي خيره غالب لأجل ما يعرض فيه من شر جزئي إضافي لفات الخير الغالب، وفوات الخير الغالب شر غالب.

كوجود النار، فإن في وجودها منافع كثيرة، وفيها مفاسد، ولكن إذا قابلنا بين مصالحها ومفاسدها لم تكن لمفاسدها نسبة إلى مصالحها. “وبالجملة فعناصر هذا العالم السفلي خيرها ممتزج بشرها، ولكن خيرها غالب، وأما العالم العلوي فبرئ من ذلك“.

[3] ويُقدِّم ابن قيم الجوزيَّة أنموذجًا لاعتراض نفاة الحكمة الإلهيَّة -وهو ليس إلا أحد الاعتراضات التي أجاب عنها- وهو قولهم: “أي حكمة في إبقاء إبليس إلى آخر الدهر وأمات الرسل؟“.

ويجيب ابن قيم الجوزيَّة عن ذلك، بأن لله في ذلك من الحكمة عظمية وكثيرة تضيق بها الأوهام، ويُمكن إدراك بعضها فقط، ومنها:

(1) أنه سبحانه لما جعله محكاً ومحنة يخرج به الطيب من الخبيث، ووليه من عدوه، اقتضت حكمته إبقاءه ليحصل الغرض المطلوب بخلقه، ولو أماته لفات ذلك الغرض، كما أن الحكمة اقتضت بقاء أعدائه في الأرض إلى آخر الدهر، ولو أهلكهم البتة لتعطلت الحكم الكثيرة في إبقائهم، فكما اقتضت حكمته امتحان أبي البشر اقتضت امتحان أولاده من بعده به، فتحصل السعادة لمن خالف إبليس وعاداه، وينحاز إليه من وافقه ووالاه.

(2) أنه سبحانه لما سبق حلمه وحكمته أنه لا نصيب له في الآخرة، وقد سبق له طاعة وعبادة، جزاه بها في الدنيا بأن أعطاه البقاء فيها إلى آخر الدهر، فإنه سبحانه لا يظلم أحداً حسنة عملها، فأما المؤمن فيجزيه بحسناته في الدنيا وفي الآخرة، وأما الكافر فيجزيه بحسنات ما عمل في الدنيا، فإذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له شيء.

(3) أن بقاء إبليس إلى أخر الدهر لم يكن كرامة في حقه، فإنه لو مات كان خيراً له وأخف لعذابه وأقل لشره، ولكن لما غلظ ذنبه بالإصرار على المعصية، ومخاصمة من ينبغي التسليم لحكمه، والقدح في حكمته، والحلف على اقتطاع عباده وصدهم عن عبوديته ؛ كانت عقوبة الذنب أعظم عقوبة بحسب تغلظه، فأبقي في الدنيا وأملي له ليزاد إثماً على إثم فيستوجب العقوبة التي لا تصلح لغيره، فيكون رأس أهل الشر في العقوبة كما كان رأسهم في الشر والكفر.

(4) أنَّ إماتة الأنبياء والمرسلين عليهم السلام لم يكن لهوانهم على الله، ولكن ليصلوا إلى محل كرامته ويستريحوا من نكد الدنيا وتعبها ومقاساة أعدائهم وأتباعهم، وليحيي الرسل بعدهم تترى رسولاً بعد رسول، فإماتتهم أصلح لهم وللأمة، أما هم فلراحتهم من الدنيا ولحوقهم بالرفيق الأعلى في أكمل لذة وسرور، ولا سيما وقد خيرهم ربهم بين البقاء في الدنيا واللحاق به، وأما الأمم فيعلم أنهم لم يطيعوهم في حياتهم خاصة بل أطاعوهم بعد مماتهم كما أطاعوهم في حياتهم، وأن أتباعهم لم يكونوا يعبدونهم بل يعبدون الله بأمرهم ونهيهم، والله هو الحي الذي لا يموت، فكم في إماتتهم من حكمة ومصلحة لهم وللأمم.

(5) أن الله لم يخلق البشر في الدنيا على خلة قابلة للدوام بل جعلهم خلائف في الأرض، يخلق بعضهم بعضاً، فلو أبقاهم لفاتت المصلحة والحكمة في جعلهم خلائف، ولضاقت بهم الأرض، فالموت كمال لكل مؤمن، ولولا الموت لما طاب العيش في الدنيا، ولا هنأ لأهلها بها، فالحكمة في الموت كالحكمة في الحياة.

قال الحق سبحانه: (الم ۝ أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ۝ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ۝ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى