- تأليف : عبدالعزيز المندرج
- تحرير : أيوب بن هادي
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله، أما بعد:
لا يخفى ما لشيخ الإسلام ابن تيمية من مكانة في التحرير العقدي، ففي تجلية موقفه في المسائل العقدية فوائد، وعلى هذا الأساس جاءت هذه المقالة لتجلية موقفه من مقالة التفويض التي قال بها بعض الحنابلة، وقد وقع الاختيار على تفويض مفوضة الحنابلة بخصوصهم بسبب تميز مسلكهم في التفويض عن مسلك الأشعرية، فقد قالوا بتفويض صفات مخصوصة، وأثبتوا العلم بمعاني بعض الصفات التي لا يثبت مفوضة الأشعرية علمنا بمعانيها، ولهم عبارات في الإبانة عن مذهبهم لا توجد عند الأشعرية، وفي بحث موقف ابن تيمية منهم بيان لشيء من الخلاف العقدي الداخلي بين الحنابلة.
ولما كان المقال خاصا بمفوضة الحنابلة فإن ما سيكون في كلامي من التعبير بأخبار الصفات أو نصوص الصفات فالمقصود به خصوص الصفات التي يفوضها مفوضة الحنابلة كاليد والوجه ونحوها.
بداية ينبغي أن يعرف قول مفوضة الحنابلة من كلامهم ثم ينظر في كلام ابن تيمية ، وأهم حنبلي – من حيث سعة التأصيل وامتداد التأثير- أصل للتفويض وسبق شيخ الإسلام هو القاضي أبو يعلى، ولذا سأعتمد على كلامه في الإبانة عن مذهبهم.
قال القاضي أبو يعلى ( إبطال التأويلات 59، 60 ):
فصل في الدلالة على أنه لا يجوز الاشتغال بتأويلها وتفسيرها( يقصد أخبار الصفات ) من وجوه أحدها:
أن آي الكتاب قسمان: أحدهما محكم تأويله تنزيله يفهم المراد منه بظاهره وقسم هو متشابه لا يعلم تأويله إلا الله ولا يوقف على معناه بلغة العرب بدليل قوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا الله} وقوله: {والراسخون في العلم يقولون آمنا به} فالواو ههنا للاستئناف وليست عاطفة كذلك أخبار الرسول، صلى الله عليه وسلم، جارية هذا المجرى ومنزلة على هذا التنزيل منها البين المستقل في بيانه بنفسه، ومنها ما لا يوقف على معناه بلغة العرب.
وقال ( ص 251 ) : أن الصحابة ومن بعدهم من التابعين حملوها على ظاهرها، ولم يتعرضوا لتأويلها، ولا صرفها عن ظاهرها.
فتضمن كلامه أمورا:
أن نصوص هذه الصفات من المتشابه الذي لا يعلمه تأويله إلا الله ولا يوقف على معناه بلغة العرب
أن شأن الكتاب والسنة في ذلك واحد فأحاديث الصفات لا يعلم تأويلها إلا الله
في قوله لا يعلم تأويلها إلا الله دلالة على نفي العلم بمعانيها عن كل ما سوى الله بما في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ مبنى احتجاجه بالآية على انفراد الله بالعلم بالتأويل، ولا يحتاج أن يَنص على خصوص ذلك، وهذا شأن كل استثناء من هذا القبيل لا يحتاج أن ينص على غير المستثنى على وجه التفصيل ما دام داخلا في عموم الكلام.
أنه مع كون نصوص الصفات لا يعلم تأويلها إلا الله ولا يوقف على معانيها بلغة العرب إلا أنه يجب حملها على ظاهرها.
بعدها نأتي لكلام ابن تيمية، قال في الجواب الصحيح (6/ 519 – 520) :
وهؤلاء الذين عندهم ما يناقض بعض ما أخبرت به الرسل هم ثلاثة أصناف:
أهل التخييل من الملاحدة المتفلسفة والباطنية الذين يقولون: إن الرسل أخبروا من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر بما يخالف الحق في نفس الأمر ليخيلوا إلى الجمهور ما ينتفعون به، ويعدون هذا من فضائل الرسل، وقد بسط الرد على هؤلاء في غير موضع.
وأهل التحريف والتأويل: الذين يؤولون كلامهم على ما يخالف مرادهم، ويزعمون أنهم أرادوا ذلك المعنى مع أنه ليس في كلامهم ما يدل على إرادة ذلك المعنى، بل كلامهم يدل على إرادة خلافه.
وأهل التجهيل: الذين يقولون ذلك الكلام ليس له معنى يعلمه الرسول، ولا غيره، وإنما يعلمه الله وحده، وهذان القولان يقول بكل منها طوائف معظمين للرسل، وقد تبين فسادهما في غير هذا الموضع.
وأما من قال: إن الرسل وغيرهم يعلمون المعنى الذي بينه الله لهم بكلامه، ولكن استأثر الله بعلم أمر آخر لا يعلمونه كما استأثر بعلم غيب الساعة، فهذا قول السلف والأئمة، وبسط هذا له موضع آخر.
وفيه: أن المقالة التي ذكرها عن أهل التجهيل التي هي من جملة ما يناقض أخبار الرسل عين ما قرره القاضي، وفيه أنها مخالفة لقول السلف والأئمة، وقصد الشيخ بالعلم الذي استأثر به الله علم الكيفية لا علم معاني نصوص الصفات كما بيّن ذلك في موضع آخر.
وقال ( الحموية 277-285 ) : الصحابة والتابعون لهم بإحسان ومن سلك سبيل السلف هم في هذا الباب على سبيل الاستقامة، وأما المنحرفون عن طريقهم فهم ثلاث طوائف: أهل التخييل، وأهل التأويل، وأهل التجهيل…. وأما الصنف الثالث: وهم أهل التجهيل: فهم كثير من المنتسبين إلى السنة وأتباع السلف. يقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف معاني ما أنزل الله عليه من آيات الصفات، ولا جبريل يعرف معاني تلك الآيات، ولا السابقون الأولون عرفوا ذلك. وكذلك قولهم في أحاديث الصفات: إن معناها لا يعلمه إلا الله، مع أن الرسول تكلم بهذا ابتداءً، فعلى قولهم تكلم بكلام لا يعرف معناه. وهؤلاء يظنون أنهم اتبعوا قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} [آل عمران:7] ، فإنه وقف كثير من السلف على قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} وهو وقف صحيح لكن لم يفرقوا بين معنى الكلام وتفسيره، وبين التأويل الذي انفرد الله تعالى بعمله، وظنوا أن التأويل المذكور في كلام الله تعالى هو التأويل المذكور في كلام المتأخرين، وغلطوا في ذلك … ثم كثير من هؤلاء يقولون: تجرى على ظاهرها، فظاهرها مراد. مع قولهم: إن لها تأويلاً بهذا المعنى لا يعلمه إلا الله، …. والمقصود هنا التنبيه على أصول المقالات الفاسدة التي أوجبت الضلال في باب العلم والإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن من جعل الرسول غير عالم بمعاني القرآن الذي أُنزل إليه، ولا جبريل جعله غير عالم بالسمعيات، لم يجعل القرآن هدى ولا بيانًا للناس.
وفيه: زيادة على ما سبق بيان تسويتهم بين آيات هذه الصفات وأحاديثها وجمعهم بين التفويض والقول بالحمل على الظاهر، وبيان ما احتجوا به ومنشأ غلطهم وهذا كله تضمنه كلام القاضي، مع وصف القائل بهذا بأنه من المنحرفين عن طريق السلف مع أن كثيرا منهم ينتسب للسلف والأئمة.
وقال ( درء تعارض العقل والنقل 1/ 15 – 16 ) : هؤلاء أهل التضليل والتجهيل الذين حقيقة قولهم: إن الأنبياء جاهلون ضالون، لا يعرفون ما أراد الله نما وصف به نفسه من الآيات وأقوال الأنبياء.
ثم هؤلاء منهم من يقول: المراد بها خلاف مدلولها الظاهر والمفهوم، ولا يعرف أحد من الأنبياء والملائكة والصحابة والعلماء ما أراد الله بها، كما لا يعلمون وقت الساعة.
ومنهم من يقول: بل تجري علي ظاهرها، وتحمل علي ظاهرها، ومع هذا فلا يعلم تأويلها إلا الله، فيتناقضون حيث أثبتوا لها تأويلا يخالف ظاهرها، وقالوا ـ مع هذا ـ إنها تحمل علي ظاهرها، وهذا ما أنكره ابن عقيل على شيخه القاضي أبي يعلى في كتاب ذم التأويل.
وفيه: التنصيص على اسم القاضي في مقالة كرر ذكرها عن طائفة من أهل التجهيل وفي سياق ذكر طوائف أهل التجهيل.
وقال ( شرح حديث النزول 65 ) : فإن معرفة مراد الرسول ومراد الصحابة هو أصل العلم، وينبوع الهدى، وإلا فكثير ممن يذكر مذهب السلف ويحكيه لا يكون له خبرة بشيء من هذا الباب، كما يظنون أن مذهب السلف في آيات الصفات وأحاديثها. أنه لا يفهم أحد معانيها؛ لا الرسول ولا غيره، ويظنون أن هذا معنى قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ} [آل عمران: 7] مع نصرهم للوقف على ذلك؛ فيجعلون مضمون مذهب السلف أن الرسول بلغ قرآنًا لا يفهم معناه، بل تكلم بأحاديث الصفات وهو لا يفهم معناها، وأن جبريل كذلك، وأن الصحابة والتابعين كذلك،وهذا ضلال عظيم، وهو أحد أنواع الضلال في كلام الله والرسول صلى الله عليه وسلم، ظن أهل التخييل، وظن أهل التحريف والتبديل، وظن أهل التجهيل.
وفيه: التنشيع على المقالة مع كون ما فيها تضمنه كلام القاضي.
وقال ( مجموع الفتاوى 4/ 67 – 68 ): أما الصنف الثالث الذين يقولون: إنهم أتباع السلف فيقولون: إنه لم يكن الرسول يعرف معنى ما أنزل عليه من هذه الآيات ولا أصحابه يعلمون معنى ذلك بل لازم قولهم: أنه هو نفسه لم يكن يعرف معنى ما تكلم به من أحاديث الصفات بل يتكلم بكلام لا يعرف معناه والذين ينتحلون مذهب السلف يقولون: إنهم لم يكونوا يعرفون معاني النصوص بل يقولون ذلك في الرسول. وهذا القول من أبطل الأقوال ومما يعتمدون عليه من ذلك ما فهموه من قوله تعالى {وما يعلم تأويله إلا الله} ويظنون أن التأويل هو المعنى الذي يسمونه هم تأويلا وهو مخالف للظاهر. ثم هؤلاء قد يقولون: تجري النصوص على ظاهرها وتأويلها لا يعلمه إلا الله ويريدون بالتأويل: ما يخالف الظاهر وهذا تناقض منهم. وطائفة يريدون بالظاهر ألفاظ النصوص فقط والطائفتان غالطتان في فهم الآية.
وقال ( مجموع الفتاوى 5/ 34 – 35 ) : وأما الصنف الثالث وهم (أهل التجهيل فهم كثير من المنتسبين إلى السنة واتباع السلف. يقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعرف معاني ما أنزل الله إليه من آيات الصفات ولا جبريل يعرف معاني الآيات ولا السابقون الأولون عرفوا ذلك. وكذلك قولهم في أحاديث الصفات: إن معناها لا يعلمه إلا الله مع أن الرسول تكلم بها ابتداء فعلى قولهم تكلم بكلام لا يعرف معناه، وهؤلاء يظنون أنهم اتبعوا قوله تعالى {وما يعلم تأويله إلا الله}
وفيه: تأكيد كثرة المنتسبين منهم للسنة واتباع السلف وذكر مقالات عنهم تضمنها كلام القاضي.
وقال ( درء تعارض العقل والنقل 7/ 34-35 ) : نوع ثالث سمعوا الأحاديث، والآثار، وعظموا مذهب السلف.
وشاركوا المتكلمين الجهمية في بعض أصولهم الباقية، ولم يكن لهم من الخبرة بالقرآن والحديث والآثار، ما لأئمة السنة والحديث، لا من جهة المعرفة والتمييز بين صحيحها وضعيفها، ولا من جهة الفهم لمعانيها.
وقد ظنوا صحة بعض الأصول العقلية للنفاة الجهمية، ورأوا ما بينهما من التعارض.
وهذا حال أبي بكر بن فورك، والقاضي أبي يعلى، وابن عقيل وأمثالهم.
لهذا كان هؤلاء تارة يختارون طريقة أهل التأويل، كما فعله ابن فورك وأمثاله في الكلام على مشكل الآثار.
وتارة يفوضون معانيها، ويقولون: تجري على ظواهرها، كما فعله القاضي أبو يعلى وأمثاله في ذلك.
وتارة يختلف اجتهادهم، فيرجحون هذا تارة وهذا تارة، كحال ابن عقيل وأمثاله.
فيه: ذكر مقالة عن القاضي كرر نسبتها لطائفة من أهل التجهيل.
وقال ( بيان تلبيس الجهمية 8 / 549 ) : المقصود أن قول من قال إنه لا يعلم تأويله إلا الله يريد له السلف أن نصوص الصفات لا يفهم منها شيء بل يقطع أن مدلولها غير مراد والمراد لا يعلمه إلا الله فهذا القول لم يعرف عن أحد من السلف بل أقوالهم صريحة بخلافه.
وفيه: أن فهم القاضي لآية آل عمران الذي بنى عليه مذهبه مخالف لقول السلف.
وقال ( مجموع الفتاوى 17 /418-419 ) :
أما أن يراد بالتأويل التفسير ومعرفة المعنى ويوقف على قوله إلا الله فهذا خطأ قطعا مخالف للكتاب والسنة وإجماع المسلمين. ومن قال ذلك من المتأخرين فإنه متناقض يقول ذلك ويقول ما يناقضه. وهذا القول يناقض الإيمان بالله ورسوله من وجوه كثيرة ويوجب القدح في الرسالة ولا ريب أن الذي قالوه لم يتدبروا لوازمه وحقيقته بل أطلقوه وكان أكبر قصدهم دفع تأويلات أهل البدع للمتشابه. وهذا الذي قصدوه حق وكل مسلم يوافقهم عليه؛ لكن لا ندفع باطلا بباطل آخر ولا نرد بدعة ببدعة ولا يرد تفسير أهل الباطل للقرآن بأن يقال: الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة كانوا لا يعرفون تفسير ما تشابه من القرآن ففي هذا من الطعن في الرسول وسلف الأمة ما قد يكون أعظم من خطأ طائفة في تفسير بعض الآيات والعاقل لا يبني قصرا ويهدم مصرا.
وفيه: التنصيص على مخالفة تفسير القاضي الذي هو من ضمن من قصد دفع التأويلات لمعنى التأويل للكتاب والسنة والإجماع مع مناقضته للإيمان بالله ورسوله من وجوه كثيرة وقدحه في الرسالة.
وقال قبل ذلك ( مجموع الفتاوى 17/ 412-413 ) : فجاء بعدهم قوم انتسبوا إلى السنة بغير خبرة تامة بها وبما يخالفها ظنوا أن المتشابه لا يعلم معناه إلا الله فظنوا أن معنى التأويل هو معناه في اصطلاح المتأخرين: وهو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى المرجوح فصاروا في موضع يقولون وينصرون إن المتشابه لا يعلم معناه إلا الله ثم يتناقضون في ذلك من وجوه. أحدها: أنهم يقولون النصوص تجري على ظواهرها ولا يزيدون على المعنى الظاهر منها ولهذا يبطلون كل تأويل يخالف الظاهر ويقرون المعنى الظاهر ويقولون مع هذا إن له تأويلا لا يعلمه إلا الله والتأويل عندهم ما يناقض الظاهر فكيف يكون له تأويل يخالف الظاهر وقد قرر معناه الظاهر وهذا مما أنكره عليهم مناظروهم حتى أنكر ذلك ابن عقيل على شيخه القاضي أبي يعلى.
فيه: التنصيص على اسم القاضي في نسبة مقالة له كرر حكايتها عن طائفة من أهل التجهيل.
وقال ( مجموع الفتاوى 13/ 294-295 ) :أما إدخال أسماء الله وصفاته أو بعض ذلك في المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله. أو اعتقاد أن ذلك هو المتشابه الذي استأثر الله بعلم تأويله كما يقول كل واحد من القولين طوائف من أصحابنا وغيرهم. فإنهم وإن أصابوا في كثير مما يقولونه ونجوا من بدع وقع فيها غيرهم فالكلام على هذا من وجهين: الأول: من قال: إن هذا من المتشابه وأنه لا يفهم معناه فنقول أما الدليل على بطلان ذلك فإني ما أعلم عن أحد من سلف الأمة ولا من الأئمة لا أحمد بن حنبل ولا غيره أنه جعل ذلك من المتشابه الداخل في هذه الآية ونفى أن يعلم أحد معناه. وجعلوا أسماء الله وصفاته بمنزلة الكلام الأعجمي الذي لا يفهم ولا قالوا: إن الله ينزل كلاما لا يفهم أحد معناه وإنما قالوا كلمات لها معان صحيحة. قالوا في أحاديث الصفات: تمر كما جاءت. ونهوا عن تأويلات الجهمية وردوها وأبطلوها التي مضمونها تعطيل النصوص عما دلت عليه.
وفيه: التنصيص على كون هذا المذهب قال به طوائف من الحنابلة وأن الإنكار يشمل ولو تفويض بعض الأسماء أو بعض الصفات مع تقرير مخالفة ذلك للمعلوم من مذهب السلف والإمام أحمد.
وقال ( مجموع الفتاوى 5/ 476-477 ) : وإما أن يقولوا: لا يفهم منه شيء ويزعمون أن هذا مذهب السلف، ويقولون: إن قوله: {وما يعلم تأويله إلا الله} يدل على أن معنى المتشابه لا يعلمه إلا الله والحديث منه متشابه – كما في القرآن – وهذا من متشابه الحديث؛ فيلزمهم أن يكون الرسول الذي تكلم بحديث النزول لم يدر هو ما يقول ولا ما عني بكلامه – وهو المتكلم به ابتداء. فهل يجوز لعاقل أن يظن هذا بأحد من عقلاء بني آدم فضلا عن الأنبياء فضلا عن أفضل الأولين والآخرين وأعلم الخلق وأفصح الخلق وأنصح الخلق للخلق صلى الله عليه وسلم وهم مع ذلك يدعون أنهم أهل السنة وأن هذا القول الذي يصفون به الرسول وأمته هو قول أهل السنة. ولا ريب أنهم لم يتصوروا حقيقة ما قالوه ولوازمه. ولو تصوروا ذلك لعلموا أنه يلزمهم ما هو من أقبح أقوال الكفار في الأنبياء وهم لا يرتضون مقالة من ينتقص النبي صلى الله عليه وسلم ولو تنقصه أحد لاستحلوا قتله وهم مصيبون في استحلال قتل من يقدح في الأنبياء عليهم السلام وقولهم يتضمن أعظم القدح؛ لكن لم يعرفوا ذلك. ولازم القول ليس بقول فإنهم لو عرفوا أن هذا يلزمهم ما التزموه.
وفيه: التنصيص على عين ما تضمنه كلام القاضي وإنكاره أشد الإنكار.
وقال ( درء تعارض العقل والنقل 1/ 204-205 ) : ما ذكرناه من لوازم قول التفويض: هو لازم لقولهم الظاهر المعروف بينهم، إذ قالوا: إن الرسول كان يعلم معاني هذه النصوص المشكلة المتشابهة، ولكن لم يبين للناس مراده بها، ولا أوضحه إيضاحا يقطع به النزاع.
وأما علي قول أكابرهم: إن معاني هذه النصوص المشكلة المتشابهة لا يعلمه إلا الله، وأن معناها الذي أراده الله بها هو ما يوجب صرفها عن ظواهرها ـفعلي قول هؤلاء يكون الأنبياء والمرسلون لا يعلمون معاني ما أنزل الله عليهم من هذه النصوص، ولا الملائكة، ولا السابقون الأولون، وحينئذ فيكون ما وصف الله به نفسه في القرآن، أو كثير مما وصف الله به نفسه، لا يعلم الأنبياء معناه، بل يقولون كلاما لا يعقلون معناه، وكذلك نصوص المثبتين للقدر عند طائفة، والنصوص المثبتة للأمر والنهي والوعد والوعيد عند طائفة، والنصوص المثبتة للمعاد عند طائفة.
ومعلوم أن هذا قدح في القرآن والأنبياء، إذ كان الله أنزل القرآن، وأخبر أنه جعله هدي وبيانا للناس، وأمر الرسول أن يبلغ البلاغ المبين، وأن يبين للناس ما نزل إليهم وأمر بتدبر القرآن وعقله، ومع هذا فأشرف ما فيه ـوهو ما أخبر به الرب عن صفاته، أو عن كونه خالقا لكل شيء، وهو بكل شيء عليم، أو عن كونه أمر ونهي، ووعد وتوعد، أو عما أخبر به عن اليوم الآخر ـ لا يعلم أحد معناه، فلا يعقل ولا يتدبر، ولا يكون الرسول بين للناس ما نزل إليهم، ولا بلغ البلاغ المبين.
وعلي هذا التقدير فيقول كل ملحد ومبتدع: الحق في نفس الأمر ما علمته برأيي وعقلي، وليس في النصوص ما يناقض ذلك، لأن تلك النصوص مشكلة متشابهة لا يعلم أحد معناها، وما لا يعلم أحد معناه لا يجوز أن يستدل به.
فيبقي هذا الكلام سدا لباب الهدي والبيان من جهة الأنبياء، وفتحا لباب من يعارضهم ويقول: إن الهدي والبيان في طريقنا لا في طريق الأنبياء، لأنا نحن نعلم ما نقول ونبينه بالأدلة العقلية، والأنبياء لم يعلموا ما يقولون: فضلا عن أن يبينوا مرادهم.
فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد.
فيه: أن هؤلاء المفوضة طوائف فمنهم من خص التفويض بنصوص الصفات لتي عدوها من المتشابه ومنهم زاد وفوض نصوص القدر ومنهم من فعل ذلك في نصوص الأمر والنهي والوعد والعيد ومنهم من فعل ذلك في نصوص المعاد، وليس في ذلك أن كل طائفة منهم قالت بقول الطائفة الأخرى ولا أن محل الكلام فيمن عمم التفويض في جميع النصوص بل الكلام في طوائف اشتركوا في أصل القول بتفويض المعنى الذي هو من شر أٌقوال أهل البدع والإلحاد واختلفوا فيما يُفوض.
فتبين بما سبق أن قول مفوضة الحنابلة قول منكر عند ابن تيمية، مناقض لأخبار الرسل، ومقالة السلف والأئمة، ويلزم منه القدح في القرآن والأنبياء، وفتح باب الزندقة، وغير ذلك من القبائح.
اقرأ ايضاً: تحرير مواقف المعاصرين من تفويض الإمام ابن قدامة