عام

فن الاعتزال: أهم مهارة لم يعلمك إياها أحد

  • الكاتب: زات رانا (ZatRana)
  • ترجمة: أسامة الوهيبي
  • تحرير: إبراهيم جمال

قبل وفاته بعمر التاسعة والثلاثين، ساهم بليز باسكال بإسهامات ضخمة في الفيزياء، والرياضيات لاسيما في الموائع، والهندسة، والإحصاء.

هذا الإنجاز– على أية حال- أثّر على أكثر من مجرد حقل العلوم الطبيعية، فأكثر الحقول التي نصنفها الآن تحت مظلة العلوم الإنسانية نمت – حقيقة –بفضل القواعد التي ساعد باسكال بوضعها.

المثير للاهتمام بما فيه الكفاية أن أغلب ما أنجزه كان في عمر المراهقة، وبعضها كان وهو في العشرينيات، وبعد بلوغه بدأ فعلا بالتوجه نحو الفلسفة واللاهوت مستلهما التجربة الدينية.

قبل وفاته بقليل، تحدث عن جزئيات من أفكاره الخاصة التي صدرت لاحقا مجموعةً في كتاب بعنوان (Pensees).

في حين كان الكتاب تقريبا عن حجة رياضية لاختيار حياة الإيمان والتصديق، كان أكثر شيء طريف فيه هو التأملات الواضحة والنيرة عن ماذا يعني أن تكون إنسانا. فالكتاب عبارة عن مخطط لنفسياتنا قبل أن يُعترف بعلم النفس بصفته علما رسميا بمدة طويلة.

ففي الكتاب العديد من المواد المحفزة للأفكار الصالحة للاقتباس والتي تهاجم طبيعة الإنسان من عدة زوايا مختلفة ولكن أحد أشهر هذه الأفكار والتي تلخص جوهر حجته بجدارة هي:

“كل مشاكل البشر تنبع من عدم قدرتهم على الجلوس بهدوء في غرفة لوحدهم”

وفقا لباسكال، نحن نخاف من صمت الوجود، ونفزع من الملل وحينها نختار الملهيات بلا غاية وهذا لا يساعدنا، بل نهرب من مشاكلنا العاطفية بالراحة الخادعة للعقل.فالمشكلة– حقيقة –في أصلها أننا لا نتعلم فن العزلة.

مخاطر أن تكون متصلا بالآخرين

اليوم وبشكل أكثر من السابق، تبدو رسالة باسكال صحيحة. فإذا كان هناك كلمة واحدة تصف التقدم الذي صنعناه في القرن الماضي فهي: التواصل.

سيطرت تقنيات المعلومات على توجهنا الثقافي فمن الهاتف إلى التلفاز، والانترنت وجدنا طرقا لجمعنا معا قرب بعض، متمكنين من الاتصال المستمر بالعالم.

أستطيع الجلوس في مكتبي في كندا وأتنقل عبر سكايب “Skype” عمليا في أي مكان أريده. وأستطيع أن أكون في الجانب الآخر من العالم بتصفح بسيط، وأظل على معرفة بالذي يحدث في منزلي.

لا أعتقد أني بحاجة إلى تسليط الضوء على منافع كل ما ذكرت، ولكن هناك جوانب سلبية بدأت أيضا بالظهور. بعيدا عن حديث اليوم حول الخصوصية وجمع البيانات، فهناك أثار جانبية ربما أكثر ضررا، فنحن نعيش اليوم في عالم نتصل فيه بكل شيء حاشا أنفسنا.

فإذا كانت ملاحظة باسكال عن عدم قدرتنا على الجلوس بهدوء لوحدنا في غرفة تصدق فعلاً على حالة البشر بشكل عام، فإن هذه الحالة قد تعززت بشكل كبير بسبب الخيارات المتاحة لنا اليوم. إن منطق الفكرة يغري بطبيعة الحال، إذ لماذا تظل لوحدك حين لا يجب عليك ذلك؟

الجواب هو أن عدم كونك وحيدا يختلف عن الشعور بالوحدة، والأسوأ من ذلك أنه كلما قل مستوى الراحة لديك بسبب العزلة زاد ذلك من احتمال جهلك بنفسك؛ ومن ثم ستقضي الكثير من الوقت متفاديا العزلة لتركز على أشياء أخرى. في خضم هذه العملية، ستدمن نفس التقنيات التي كان ينبغي أن تحررك.

فلا تظن أنه بمجرد سماعك لضجيج العالم في محاولة لإخفاء إزعاج تعاملك مع نفسك أن قلقك سوف يزول بذلك.

يظن الجميع أنهم يعون بأنفسهم، ويظنون أنهم يعرفون كيف يشعرون، ويعرفون ماذا يريدون وما هي مشاكلهم، ولكن الحقيقة أن القليل من الناس من هم كذلك. والذين يعرفون ذلك سيكونون أول من يقول كم أن الوعي بالنفس متقلب وأنه يتطلب قضاء وقت طويل منعزلا للوعي بالنفس.

الناس في عالمنا اليوم يستطيعون أن يمضوا كامل حياتهم دون بحث جاد خلف سطوح الأقنعة التي يرتدونها، وفي الحقيقة هناك العديد ممن يفعل ذلك. نحن نبتعد بشكل متسارع عن أنفسنا وهذه هي المشكلة.

اقرأ ايضاً: ضع هاتفك جانباً فربما يساعدك ذلك على عيش حياة أطول

 

الملل وسيلة للتحفيز

إذا عدنا للأساسيات – وهو ما تطرق له باسكال أيضا – نجد أن خصومتنا مع العزلة هي خصومتنا مع الملل.

جوهريا، ليس من الضروري أننا ندمن مشاهدة التلفاز لأنه فيه شيء مميز يرضينا، تمامًا مثلما أننا لا ندمن تعاطي أغلب المثيرات بسبب أن مزاياها تفوق عيوبها. في الواقع ما نفعله هو أننا ندمن حالة مفرغة من الشعور بالملل. تقريبًا أي شيء آخر يتحكم في حياتنا بطريقة غير صحية نجد جذوره في وعينا بفزعنا من العدم، واللاشيء، ولا نستطيع أن نتخيل وجودنا بلا شيء نفعله، وبالتالي نبحث عن أي ملهٍ، وعن رفقة، وحين لا نجد نبحث عن أشياء في مستوى أعلى.

إننا نتجاهل حقيقة أن عدم مواجهة هذا العدم هو نفس عدم مواجهة أنفسنا، وعدم مواجهة أنفسنا هو سبب شعورنا بالملل والقلق، على الرغم من احتكاكنا عاطفيا واتصالنا بكل شيء حولنا.

ولحسن الحظ أن هناك حلاً، والحل الوحيد لتجنب شعور الخوف من الوحدة – وأي خوف – هو المواجهة، وهو أن تجعل الملل يأخذك أينما أراد بحيث تتعامل معه مهما كان، وتحس بنفسك من خلاله، حينها ستسمع نفسك وهي تفكر، وتتعلم كيف تضم أجزاءك المختفية من جراء الشتتات. الجميل في هذا أنه بمجرد تجاوزك الحاجز الأول ستدرك أن العزلة لسيت سيئة جدا، وأنها ستزودك بزخمها الخاص. عندما تحيط نفسك بلحظات العزلة والسكون ستصبح عاطفيا متآلفا مع بيئتك حتى يمتنع المحفز القسري، وسيصبح العالم أغنى، وستزول قشور الطبقات، وسترى الأشياء على ما تعنيه، في أوج كليتها وتناقضاتها وغرابتها.

ستعلم أن هناك العديد من الأشياء التي في مقدورك الانتباه إليها أكثر من انتباهك للأشياء التي تطفو على السطح. وكون الغرفة الهادئة لا تنبض بالإثارة – مثل فكرة أن تغمس نفسك في فيلم، أو عرض تلفزيوني – فهذا لا يعني أنه ليس هناك عمقاً جديرًا بالاكتشاف.

من الممكن أن يكون الاتجاه الذي تقودك إليه العزلة بشعاً، خصوصاً عندما نصل إلى التأمل الذاتي (مشاعرك وأفكارك، ظنونك وآمالك)، ولكن على المدى البعيد سيكون أكثر متعة من الهروب دون إدراك أنك تهرب.

احتضان الملل يجعلك تكتشف الأشياء التي لم تكن تألفها من قبل، بإبداع طفل يرى العالم لأول مرة، بالإضافة إلى أنه يعالج أغلب الصراعات الداخلية.

 

الوجبات الجاهزة

كلما تقدم العالم، زادت المثيرات التي تزودنا بالمحفزات لنخرج من أدمغتنا ونتصل بالعالم من حولنا. فحين عمم باسكال أن عدم الراحة الناتج من العزلة هو أساس كل مشاكلنا سيبدو ذلك مبالغة، ولكنه ليس مبالغة هكذا بإطلاق، ومن ثم لا يستحق أن يوصف بالمبالغة.

إن كل شيء حولنا يجعلنا متصلين يذرنا أيضًا في نفس الوقت منعزلين. فنحن مشغولون بالمشتتات لدرجة أننا نسينا أنفسنا، وهذا بدوره يُلجئنا للوحدة أكثر فأكثر.

إن المتهم الرئيس ليس شعورنا بالقلق تجاه أي مثير خارجي بل هو الشعور بالعدم، أو الإدمان على الهرب من الملل لذلك لدينا نفور غريزي ضد أن نكون عدما.

ما لم ندرك قيمة العزلة، سنتجاوز حقيقة أن مواجهة الخوف من الملل من الممكن أن تزودنا بالمحفز الذي يخصنا. والطريق الوحيد لمواجهة الخوف هو أن تخصص جزءاً من وقتك، سواء كل يوم أو بشكل أسبوعي، لتجلس مع أفكارك ومشاعرك ولحظات الهدوء.

أقدم حكمة فلسفية في العالم قدمت نصيحة واحدة لنا وهي: “اعرف نفسك”، وهناك سبب جيد لذلك.

من المستحيل – تقريباً – أن نجد طريقاً صحياً للاحتكاك بالعالم من حولنا دون معرفة بأنفسنا، ومن ثم فإننا لا نملك الأساس الذي نبني عليه بقية عمرنا ما لم نوجد الوقت لاكتشاف أنفسنا. إن بقاءنا لوحدنا واتصالنا بدواخلنا مهارة لم يُعلمنا إياها أحد، ومن المفارقة أنها أكثر أهمية من أغلب المهارات التي علمونا إياها.

ليست العزلة حلاً لكل شيء ولكنها البداية.

اقرأ ايضاً: أن تكون إنساناً في زمن التكنولوجيا

المصدر
Quartz

مقالات ذات صلة

‫7 تعليقات

  1. المقال رائع ، وفيه فلاشات رائعة :
    – كلما تقدم العالم زادت المثيرات التي تحفزنا
    – اعرف نفسك
    – خصومتنا مع العزلة خصومتنا مع الملل
    – “كل مشاكل البشر تنبع من عدم قدرتهم على الجلوس بهدوء في غرفة لوحدهم”
    – اهم ما صنعناه في هذا القرن ( التواصل ) .

    شكرا لصاحب المقال ،،

  2. مقال جميل يذكرنا بالعزلة التي كان الرسول محمد صلى الله عليه وسلم يلجأ إليها في غار حراء قبل البعثة ، الفائدة التي خطرت ببالي هي أن لابد للإنسان من العزلة لتلقي الإشراقات ، شكراً للمترجم

  3. مقال رائع بحقّ. لا شك أن التطور المتسارع في وسائل التواصل أنتج فجوة في فهم الإنسان لنفسه واتصاله معها. لكني أعتقد أن مفهوم العزلة من المفاهيم الواسعة التي تحتاج إلى تحرير ولا يمكن إسقاطها على كل الناس. قد تكون العزلة في حق أحدهم مفسدة، ومدعاة لاستطراد الذهن في الوساوس والفراغ. فانشغاله في أمر محمود من أمور الدين أو الدنيا خير له من انعزاله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى