العلوم الاجتماعية والطبيعية

دعماً للتعاطف

يجدر بنا بل يجب علينا أن نشمر عن سواعد الجد لإنماء تعاطفنا العميق مع كل الناس في ظل هذا العالم المليء بالاختلافات.

إليزابيث سيجال

ترجمة: عبد الرحمن يسري

تحرير: أنوار الفرس

إن التعاطف حين نعرفه بأنه “مشاركتنا للآخرين في مشاعرهم ومن ثم الاعتناء بشأنهم” يعد من الأخلاق الحميدة في مجتمعنا، فغالبا ما نقول عبارات مثل “أفهمك” و”أشعر بألمك” بشكل يُظهر رأفة منا بحالهم واكتراثاً بشأنهم، ونعمل بالحكمة القائلة “عامل الآخرين كما تحب أن يعاملوك”؛ ولذلك عندما نتعاطف مع غيرنا نجد أننا أقدر على فعل الخير.

وها هو أحد رواد البحث النفسي في قضية التعاطف وهو دانيال باتسون يوضح أنه رغم الفروق بين التعريفات المختلفة لمصطلح “التعاطف” إلا أن بينهم جميعا معنى مشتركاً وهو أن التعاطف عملية يشعر فيها المرء بمشاعر غيره وما يمرون به؛ مما يجعله يتصرف حيالهم بحرص واهتمام.

والاهتمام بالآخرين فعل طيب؛ فمن المنطقي إذن أن نتخذ التعاطف منهجًا نعمل به في توجهنا في حياتنا الاجتماعية بين الناس بل وفي سياسة مجتمعاتنا، فبعض الناس تقلقهم مسألة أن أصحاب السلطة في المجتمع قليلو التعاطف مع شعوبهم، وهذا المعنى متبلور في قول الملكة الأخيرة لفرنسا ماري أنطوانيت الشهير حين علمت أن شعبها يعاني من الجوع فلا يكاد يجد قوت يومه فقالت “فليأكلوا الكعك”. فافتراض أننا يجدر بنا التعامل بتعاطف في حياتنا الخاصة والعامة وحتى في السياسة له أساس معقول، لكن المشكلة أن التعاطف ليس بهذه البساطة.

التعاطف وإن كان يعين الناس على فهم ما يمر به الآخرون إلا أنه أعقد من مجرد شعور لحظي بالاهتمام بالغير، وهو ما يبينه علم الأعصاب المعرفي بعد التقدم العلمي الذي وصل إليه، فتبين أن التعاطف مجموعة من نشاطات الدماغ المعقدة التي متى اجتمعت أعانت الإنسان على تفسير أفعال وسلوكيات ومشاعر الآخرين بل والشعور بها أيضاً.

إن التعاطف ليس مجرد أن تتخيل كيف كنت ستشعر إن كنت في مكان غيرك، لكنه تخيل ومحاولة فهم ما يشعر به الآخرون فعلًا، وشتان بين تخيل شعورك بهم وما يشعرون هم به في هذا الحال، إن بينهما اختلافًا رغم الظن ببساطته فهو عميق؛ فتخيلك لحال الشخص الماثل أمامك يتطلب منك قدرات ذهنية ناضجة متمايزة؛ لذلك كان التعاطف مرتكزاّ على تجربة الآخرين لا تجربتك الشخصية؛ فمثلاً نجد أن المصابين باضطراب الشخصية المعادية للمجتمع “Anti-Social Personality Disorder” قادرون على “قراءة” الناس وفهم مشاعرهم، لكن المصاب بهذا الاضطراب يقرأ الناس ليحتال عليهم ويستغلهم، وهذا ليس تعاطفًا.

ينشأ التعاطف في نفوسنا منذ الطفولة وينمو بنمونا وتعلمنا من الآخرين، وبهذا التعلم ممن حولنا تكمل لدينا ملكة التعاطف، فمشاهدة الكبار وتعاملهم مع بعضهم بعضًا تعد نموذجاً للتعاطف مع الآخرين مؤثرًا في نفس الطفل، ويؤثر في نفسه أيضا التوجيه؛ مثلما يحدث حين يُطلب من الصغير تخيل ما يشعر به الآخر، فعلى سبيل المثال عندما يضرب صبيٌّ صبيًّا آخر، نقول للضارب تخيل كيف سيكون شعورك إذا كنت أنت الذي ضُرب؟ فهذا التوجيه البسيط يعلم الصغار كيف يشعرون بما يشعر به غيرهم، وهناك الكثير من المواقف والتذكيرات اللطيفة التي تحفز الصغار على الشعور بغيرهم، وكل هذا يساعد على نمو التعاطف في وجدانهم؛ وبهذا تتضافر نشاطات الدماغ الواعية واللاواعية ليكتمل التعاطف في نفس الإنسان.

إن البشر مقلدون بالفطرة، فبعض علماء النفس يطلقون على هذه الصفة مصطلح “Mirroring” [اشتقاقاً من كلمة Mirror أي مرآة] وهذه مهارة هامة للإنسان للبقاء على قيد الحياة؛ فالأطفال يقلدون، وبالتقليد يتعلمون ولا يفقدون هذه القدرة بالبلوغ، فمثلاً لاحظ أنك تتثاءب إذا رأيت شخصاً آخر يتثاءب، وكذلك الابتسامة تجد أنك تبتسم إذا ابتسم أمامك إنسان وإن كان غريباً عنك، والتقليد ينجينا أيضاً، فعلى سبيل المثال إذا كنت في مكتبك ووجدت شخصاً يصرخ فإنك تنتبه فوراً وتتبع فعله وإن لم يكن لديك أي علم بما يحدث، بل قد تهرب من المكان إذا هم الصارخ بالهروب، فلو كان هذا الشخص يصرخ لرؤيته حريقاً في المبنى فإن تقليدك لفعله سينقذك من هذا المبنى المحترق.

إن قدرة الإنسان على التقليد هي الأساس النفسي لقدرته على التعاطف مع الآخرين، لكنه أساس البناء فقط وليس البناء كاملاً، فعندما يسمع المرء شخصا يصرخ ويهم بالهروب من مصدر الخطر فإن هذا يلفت انتباهه، ويجعله يجرد هذا المشهد إلى عنصرين هامين من عناصر التعاطف التي نتعلمها: العنصر الأول هو أن يضع نفسه مكان هذا الشخص مما يسمح له بالشعور بحاله وتفهم ما يمر به، والعنصر الثاني -وهو كالأول في الأهمية- أن يحافظ على إدراكه بأن هذه المشاعر تنتمي للشخص الآخر الذي يصرخ وليست مشاعره هو؛ فنجد أننا هنا أمام موازنة صعبة، بين أن نستشعر ونتفهم مشاعر الآخرين دون أن تغمرنا هذه المشاعر، وبين أن نفهمها دون أن نعلق بها، والتعامل مع المشاعر القوية بهذا الاتزان أمر عسير؛ فإننا وإن كنا نشارك الآخرين مشاعرهم إلا أنه يجدر بنا ألا نسمح بطغيانها علينا، وكل هذه مهارات نتعلمها وتتطلب وقتاً وتوجيهاً لضمان بلوغها حد الكمال.

هذه المهارات تعيننا على فهم مسألة التعاطف بين الأشخاص وتجاربهم، لكن يمكننا استخدام التعاطف أيضاً لفهم أوضاع اجتماعية بل وأحداث سياسية، وحينها يدعى هذا “بالتعاطف الاجتماعي”، فباستخدام قدرة الإنسان على استعارة منظور الآخرين يكون بإمكاننا فهم مجموعات وثقافات مختلفة، وهذا يتطلب من المرء أن يعلم بعض الأحداث التاريخية وأثرها على هؤلاء الناس ولو علمًا بسيطاً، أي أن نحاول فهم أشخاص قد لا نعرفهم بشكل شخصي وتجارب لم نمر بها بأنفسنا؛ فإن عدم مبادرتنا لمعرفة تجارب وثقافات الآخرين يجعل التعاطف معهم أمرًا صعبًا.

عالم الرئيسيات الهولندي فرانز دي فال Frans de Waal يطلق على التعاطف لقب “الغِراء” الذي يحافظ على تماسك البشرية؛ فهو الذي يصل بين الناس صِلات قيمة، فمثلاً عندما يتفاعل معنا أصدقاؤنا أو شركاؤنا أو زملاؤنا في العمل بل حتى الغرباء عنا بطريقة يظهر فيها تفهمهم فإن هذا يشعرنا بالاستقرار، وأننا ذوو قيمة حقا، وعلى النقيض من ذلك يؤلمنا أن نعامَل وكأننا أشياء أو مواد لا قيمة لها، ويشعرنا ذلك بالاستصغار، فالتعاطف أداة للتعرف على الآخرين وإعطائهم قيمتهم، أما بالنسبة للمجتمعات فالتعاطف الجمعي والعام هو سبيل التحضر؛ فهو للناس كخريطة تهديهم إلى الأخلاق والسلوكيات الاجتماعية الحسنة، وهو كذلك شرط لتحقق العدالة والعدل والنضال في سبيلهما؛ فعندما نتعاطف مع غيرنا ونستشعر كيف كنا سنشعر لو كنا مكانهم، حينها يمكننا أن نحدد كيف نريد أن يعاملونا إن صرنا في مكانهم حقاً.

إلا أن تعلم مهارة التعاطف يتطلب مجهوداً، وحتى بعد أن نتعلمها نجد أنها وحدها لا تضمن لنا علاقات طيبة مع الناس، فهي مجرد مهارة أو أداة توفر لنا معلومات عن الناس؛ فنتمكن بذلك من استغلالها والعمل بمقتضاها أو الامتناع عن ذلك، فالتعاطف أداة محايدة ونحن مخيرون بما نفعل بها.

إننا عادة ما ننحاز لأنفسنا حتى في تعاطفنا مع الأخرين، فنحن أقدر على قراءة من يشبهنا من الناس عمن يختلفون عنا، وعلى سبيل المثال: أقيمت دراسة بحثية في موضوع (الشعور بألم الآخرين)، يشاهد فيها أشخاص أيادي أشخاص آخرين توخز بالإبر وتحلل أنشطة دماغهم إثر ذلك، فوجدت الدراسة أن المشاهدين كانوا يشعرون بألم أكبر عندما تكون الأيدي الماثلة أمامهم لأشخاص من نفس عرقهم، بينما يقل ألمهم بقدر مهول عندما توخز يد من عرق آخر، فأراد الباحثون اختبار مسألة انحياز المرء لعرقه، فعرضوا على المشاهدين أياديَ بنفسجية اللون توخز بالإبر، فوجدوا أن نشاط أدمغة المشاهدين يشعر بألم الأيدي البنفسجية بقدر متوسط بين شعورهم بألم عرقهم وشعورهم بألم العرق الآخر.

يدلنا هذا البحث إلى أننا أكثر ميْلاً للشعور بمن يشبهنا، وفي حالة وجود انحياز قوي كالانحياز للعرق، فقد تزداد صعوبة إحساسنا بحال من لا يشبهوننا، فـ”الانحياز التعاطفي” يعني أننا أكثر ميْلاً للتعاطف مع من نرى أنه شبيه بنا عن غيره.

فهل يعني هذا أن التعاطف سيظل سجين الانحيازات؟ لا، فهذه الانحيازات مكتسبة نتعلمها من المجتمع، ففي تجربة الأيدي السابقة كان الناس ينحازون وفقاً لما تعلموه من مجتمعاتهم، فصار لكل لون دلالة مختلفة عن غيره، فلو كان مجرد الاختلاف في اللون هو معيار الانحياز لكانت ردة فعلهم تجاه الأيدي البنفسجية مطابقة لردة فعلهم حيال الأيدي المختلفة عن لونهم، بل إن مجتمعاتنا تعلمنا تفضيل من يشبهنا على من يعاكسنا في الشبه.

إننا إذا لم نستطع تصور أنفسنا في وضع الآخرين فسيصعب حينها أن نتفهمهم، لكن من حسن الحظ أنه يمكننا أن نتعلم فعل هذا فنغير بذلك تصوراتنا.

إن الاختلافات التي يرتكز عليها الناس في تحديد هوياتهم والتفريق بينها وبين هويات غيرهم قابلة لأن تختفي بمرور الزمن عند حدوث تغيرات اجتماعية أو اختلافات في الفكر السياسي، فعلى سبيل المثال كان الإيرلنديون يهاجرون إلى الولايات المتحدة الأمريكية في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وكانوا حينها من أقل فئات المهاجرين عددًا، وكان البروتستانت الأمريكيون يرون أن هؤلاء المهاجرين الإيرلنديين قذرون وعديمو الأخلاق وكسالى، ومنشأ هذا التعصب هو الأساس الديني؛ لأن الأمريكيين بروتستانتيون والإيرلنديين كاثوليك، فأين هذا التعصب الآن؟ ربما لا يعلم الأمريكيون الآن إن كان لهم سلف إيرلندي أم لا؛ فلم يعد ضمن اهتماماتهم.

لكن في المقابل أنشأنا تصورات ومعتقدات اجتماعية أخرى لا يزال لها وجود في البنية المجتمعية، ولا يزال لها أثر قوي، فقبل مئات السنين أحضر البيض زنوجاً إفريقيين للأراضي الغربية واستعبدوهم، فصار البيض المستعمرون ينظرون للسود نظرة دونية بل لم يعدوهم حينها بشراً محترمين.

إن التصورات التي يتعلمها الناس عن التفريق بين الأعراق تطغى على تصورهم للمشترك الإنساني بينهم غالبًا، فصرنا نميل لاستخدام مصطلح “القبلية” لوصف تفضيل الإنسان للأشخاص الذين يراهم مشابهين له؛ فينتمي بذلك لمجموعتهم أو “قبيلته”، وفي الوقت ذاته يعادي المجموعات أو “القبائل” المنافسة لمجموعته أو قبيلته. وأنا أسمي هذا الحال “بالقبلية الفاسدة”.

لطالما اعتمد البشر على مدار تاريخهم على انتماء كل فرد إلى قبيلته، ومازلنا نفعل ذلك حتى الآن بشكل أو بآخر، ولما كان أطفالنا يعتمدون على غيرهم لفترة طويلة كانت التربية في نظامٍ قبلي أيسر من سواها؛ لأن المهام الكثيرة المتطلبة للبقاء على قيد الحياة وتربية أجيال جديدة تستلزم اجتماع الكثير من البالغين وتعاونهم.

وعندما ننظر للآخرين من منظور أنهم “الآخرون” يعسر علينا أن نضع أنفسنا مكانهم، والاتجاهات السياسية الحالية تدعم هذا المنظور الصدامي “مجموعتي في مقابل المجموعة المخالفة” فنتج عن ذلك أن شح عندنا التعاطف، ويتضح من أنماط تصويتنا في الانتخابات أننا نصوت اعتماداً على قيم تكاد تطابق قيمنا العرقية أو حسب الفئة التي ننتمي إليها، فعلى سبيل المثال تجد أن أهل الأرياف يصوتون بشكل يختلف عن سكان المدن، وتجد أن حجج كل فريق التي يستندون إليها في اختياراتهم متباينة لتباين طريقة معيشتهم وسلوكيات تعاملهم مع المجموعات المختلفة عنهم؛ لذلك كان التعرض للمجموعات المختلفة والتجارب الحياتية المتباينة مما يشكل للمرء رؤيته السياسية، وقلة التعرض للمجموعات المختلفة والاحتكاك بها يقوض من قدرة المرء على التعاطف وخصوصاً التعاطف الاجتماعي وعندما يحدث هذا تنتج القبلية الفاسدة.

فهذه النظرة العدائية للآخرين تضعف من قدرة المرء على التعاطف معهم. فماذا نفعل إذن؟

إن المعلومة التي ذكرناها قبل قليل والتي تشير إلى أن مجتمعاتنا قد علمتنا أننا مختلفون وأن هذا التعليم قد أثر على قدرتنا الذهنية العضوية في فهم تجارب الآخرين ليست معلومة صلبة راسخة فلا يمكننا تغييرها، بل بوسعنا تغيير المسارات الدماغية في أدمغتنا فيما يدعى باللدونة العصبية؛ إذ يمكننا أن نفكر بطرق مختلفة مما سيتيح لنا أن نفكر بأسلوب تعاطفي. ويجب أن نعلم أن هذه المحاولات لبناء جسور بين اختلافاتنا مع الآخرين جزء لا يتجزأ من عملية التعاطف، وبعضنا يفعل هذا أثناء طفولته فيتعاطف دون تفكير في الأمر، وهذا يجعل التعاطف أمرًا يسيراً ككل عادة يبدؤها الإنسان صغيراً، لكنه لا يعني أنه لا يمكننا بدء عادات جديدة لنا بعدما بلغنا، بل يمكننا فعل ذلك.

الانحيازات والانفعالات العاطفية تجاه الآخرين ناتجان عن سلوكيات سيئة تعلمناها، ولا علاقة لها بالتعاطف.

لكن أنّى لنا أن نصل إلى حد التعاطف؟ سنقسمه إلى سبع سلوكيات تغطيه كله:

  • لاحظ ردود أفعال جسدك تجاه الآخرين، كيف يتصرف في المواقف التي تتضمن وجود إنسان آخر؟ راقب ردود أفعالك اللاواعية كأن تشعر بالحزن حين يحكي لك أحدهم قصة حزينة بشأن حدث في حياته، أو أن تبتسم بلا انتباه منك لأن آخر أخبرك بشيء بعث فيك البهجة.
  • فكر في ردود الفعل هذه واسأل نفسك عن معنى صدورها منك، فهل تقلد الآخرين دوماً أم أنك تمنع نفسك عن تقليدهم؟ اترك لنفسك مساحة تجربة هذا الأمر ولو شعرت بغرابته عليك، فلا تعجب لأن أصل هذه المشاعر نابعٌ من حياة غيرك لا من حياتك أنت.
  • خذ نفساً عميقاّ وانتظر قليلاً حتى تميز مشاعرك، واحرص على التفريق بين مشاعرك أنت ومشاعر غيرك.
  • وبعد تمييزك لمشاعرك وتفريقك بينها وبين مشاعر الآخر عليك بكبح جماح مشاعرك الخاصة فلا تدعها تجرفك بعيداً عن الآخر، وكلما كنت أهدأ عاطفياً فسوف يعينك ذلك على الانتباه لمشاعر الآخر.
  • وبوصولك لهذه المرحلة يمكنك الآن الخوض في تجربة الآخرين ورؤية العالم بعينيهم، فتحاول أن تفهم مشاعرهم هذه ومعنى ما يمرون به بالنسبة لهم، ولا تنسَ أنك تحاول فهم ما يمرون به على الحقيقة، لا ما كنت ستمر به أنت لو كنت مكانهم.
  • ويجب عليك أن تنتبه إلى محيطهم أيضا حتى ترى العالم بعينيهم حقا، فما الذي يجري حولك وحول الآخر بالنظر إلى السياق الاجتماعي العام؟ وكيف أثر التاريخ على ما تمر به أنت وما يمر به الآخر وما مررتما به معا؟ إن هذه الخطوة مهمة لبناء الجسور بين مواضع اختلافنا كالعرق والانتماء الإثني والجنس والأيديولوجية السياسية.
  • سل نفسك عن أوجه الشبه والاختلاف بينك وبين الآخرين، وعن معنى هذين الأمرين لك ولهم، وقد ينفعنا أن نجعل هذه الأسئلة مواضيع حديث بين الناس والجماعات، فرغم كفاءة قدرتنا على التعاطف فإننا لا يسعنا أن نجزم بعلمنا بما يمر به الآخرون، لكن الحديث مع الآخرين يعزز التعاطف، والتعاطف بدوره يثري هذه المحادثات فتزيد كفاءتها ومعناها.

بعض الناس ينتقدون استخدام التعاطف بوصفه مرشدًا لنا في حياتنا لتضمنه على المشاعر، فيقولون إن التعاطف يسمح للمشاعر بالسيطرة علينا، وهذه حجة عالم النفس بول بلوم (Paul Bloom) في كتابه (Against Empathy) أي مناهضة التعاطف، والعنوان وحده مستفز، ويدفعنا للتفكير في قدرة التعاطف على تضليلنا، لكن بلوم يقلل من التعاطف والمهارات التي يستلزمها.

يرى بلوم أن التعاطف انحيازي لأننا ننتبه بشأن شخص آخر لفترة قصيرة ولا دافع لنا في ذلك إلا المشاعر، ولأننا لا نفكر بشأن مشاعرنا هذه عندما نتعاطف مع أحدهم، وحتى عندما نفكر فإننا ننحاز في صف من يشبهنا ومن نعرف. وهذه المشاكل صحيحة لكنها لا تحدث عند تطبيق التعاطف الكامل كما يجب، فالانحيازات والميول العاطفية ينتجان عن السلوكيات التي لا نحسن تعلمها، فهو محق بشأن إشكالية هذه المشاعر، لكنه مخطئ في نسبتها إلى التعاطف.

إننا نعيش في عالم متنوع كثير الاختلافات بين عناصره، وكل منا ينتمي إلى فئة مختلفة من الناس قد لا تحتك بغيرها من الفئات طوال حياتها، وهو ما يجعل تصديقنا للصور النمطية عن الفئات الأخرى أمراً يسيراً، ويجعل التعلم بشأنهم وتخيل حالهم في حياتهم اليومية أمراً عسيرا، ولبذل هذا المجهود نحتاج إلى التعاطف معهم.

إذا استطعنا وضع أنفسنا مكان الآخرين ورؤية العالم بأعينهم فلن يردعنا الخوف ولسوف نستطيع حينها أن نحدد التصرف الصحيح والسلوك السليم. والتعاطف مع الآخرين ليس بالأمر اليسير دوماً، فأحيانا وفي حدود بعض السياقات يكون يسيرا وفي أخرى نجده عسيرا، فعندما يقع الناس تحت وطأة الخوف أو الضغوط أو القلق يعسر عليهم ترك مشاعرهم للاهتمام بمشاعر غيرهم، لكن التعاطف يولد تعاطفاً بسبب قدرتنا على التقليد، فكلما تعاطفنا مع غيرنا وجدنا غيرنا يتعاطفون معنا ومع غيرنا، فالجميع يريد أن يسمعه ويفهمه الآخرون، وكل فئة من الناس تود لو ينتبه لها غيرها وهذا محال بلا تعاطف.

المصدر
aeon.co

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى