- تأليف : عبدالوهاب الدايل
- تحرير : نورة بنت عبدالملك بن الأمير
– – – – – – –
الفكرة الرئيسية لـِ “ما بعد الحداثة”، إزالة الثابت وجميع الأشياء الصلبة، سواء المعتقدات، أو الأخلاق، أو الأمور الاجتماعية، وغيره. والإشكال في ”ما بعد” أنها تفيد أنّ النموذج السائد تفتت ولم يحل بدلا منه أي نموذج جديد!
ومما يثار في مفهوم “الحداثة” أنه رغم تداوله وشيوعه لدى المهتمين، إلا أنّه محل إشكال وإرباك! ولعل أهم أسبابه هو: اختلاف متناوليه ومعرفيه باختلاف مجالاتهم المعرفية ومشاربهم، إذ الحداثة لدى الاجتماعي تختلف عن الاقتصادي، والسياسي، وإلخ.
وهذا ما يعرف بالاختلاف في الحقل الإبستمولوجي ـ المعرفي ـ، فما بالك إذا كان مختلفا في الحقل الأنطولوجي ـ الغيبي ـ !
كما أنّ موضوع الحداثة وما بعدها، لا بدّ أن يُعرف أنه آت من السياق الغربي؛ بمعنى أننا منساقين للمركزية الغربية ـ وهي فكرة ساذجة مردود عليها من كل الحضارات ـ، فالتحقيب التاريخي للغرب: (الإغريقي ـ اليوناني ـ الروماني ـ عصر الظلمات ـ الحداثة ـ ما بعد الحداثة) يخالف تاريخنا وسياقنا الإسلامي، كما أنّه يعتمد على إبراز مظاهرهم الحضارية والتطورات المادية، متسلسلا عبر تاريخهم، جاعلا الحد الفاصل بين كل عصر وعصر أحداثا أثرت على بلادهم وحضارتهم.
إنّ إدراك هذا التقسيم لا بدّ أن يشكل هاجسا فكريا وتربويا، بل عقديا إذ أنه ينقش مخلفاته على الأجيال، ومن ثم تكون معه تراكمات وترسبات يصعب التخلص منها.
والإيراد هنا أن تعاطي هذه الدلالات والمفاهيم من باب الاستلاب، كما أنّ الثقافة الطاغية في كل عصر هي: ثقافة الغالب لا المغلوب. و”الاستلاب” كمرادف للاغتراب، تحدث عنه روسو، غوته، شيللر، ماركس، وتمحور حول حالة نفسية يكون فيها المرء ضعيف الانتساب إلى مجتمعه والمؤسسات التي يقيمها، هش الشعور بأن الأحداث التي تدور حوله تعنيه بالفعل!
علاوة على الاستلاب والاستتباع الغربي، حضور التفسير المادي وطغيانه في تكوين المدركات، ونفي واطراح كل ما هو غيبي سماوي, فبدلا من وجود تصورات ترينا العالم أصبحت هي ما تعمينا عنه!
واللهث المادي يضرب أول ما يضرب الجانب الإنساني والأخلاقي، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها على سبيل المثال: تجليات الفكر الحداثي في المجال الاقتصادي (الرأسمالي أنموذجا) وإفراغه من الجانب الروحي الغيبي.
نأخذ تفريقا لـ د. طه عبد الرحمن بين التعريف الحداثي لمفهوم الكرامة والتعريف الإسلامي في كتابه “سؤال العمل” حيث أشار إلى أن التعريف الغربي للكرامة بالمعنى الكانطي: “أنها القيمة التي تورّث الشخص الإنساني الحق في التمتع بمعاملة تجعل منه غاية في ذاته، لا مجرد وسيلة لغيره”
أما بالمفهوم الإسلامي فهي: “القيمة التي تجعل من الخَلْق الآدمي آية دالّة على الفطرة، لا مجرد ظاهرة متمتعة بالحياة”.
فمفهوم “الخَلْق الآدمي” لا ترد عليه الاعتراضات بالمفهوم الغربي “الشخص الإنساني” فلا يشترط العقل ولا حرية الإرادة ولا الشعور بالمسؤولية.
و”الفطرة” هي أكمل الاستعدادات القيمية التي يمكن أن يُخْلَق بها الكائن الحي، فيكون الخَلْق الآدمي قد خُلِق باستعدادات قيمية ليس لها نظير عند أي مخلوق آخر.
الخلاصة أنّ طرح التجديد تحت ضغط حضاري لعبور الفجوة الماثلة، والجنوح إلى منطق المقاربات (مثاله:الديموقراطية=الشورى)، مع تغافل المرجعية النسقية والمعرفية، والجنوح كذلك إلى منطق المقارنات (مثاله: اشتراكية الإسلام، أو رأسمالية الإسلام)، منطلقه: كسل وعجز معرفي، ومؤذن بإشكالات.
فالمَنهج التَأصيلي في الأفكار رغم صعوبته، إلاّ أنّه أسْلم من طريقة التوفيق، وأمنَع للكسل الفكريّ.
أمّا المَنهج التَوفيقي في تاريخ الأفكار بشروطه الصحيحة مهمٌ، وأهمّه ألاّ يتحوّل إلى تَلفيق!
ولو شرعنا بإنتاج وإحداث أو تبني مفهوم خاص بنا لكان لزاما الانتباه لأبعاد منها:
مراعاة البعد الزمني إذ هو كفيل بتنظيم الذاكرة التاريخية، والبعد الموضوعي الحيادي إذ هو كفيل بتفسير الظواهر على أسس منطقية، والبعد المرجعي المنتسب للوحي والنبوات “لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ”، والبعد التربوي، فلئن أفرغت منها، فستصبح الأجيال نذير شؤم وهشاشة بعدم انتسابها إلى حضاراتها، وتركها فريسة تتخطفها الأمم..
أخيرا.. إن إنسان الحداثة حسب تعبير هايدغر “ليس من يتعرف على سير التاريخ ويقف عند حركته الدؤوبة، وإنّما منْ يتخذ موقفا ما، ليس أنْ “يقف على” بل “يقف من””.