الفلسفة

“الإله وحده يمكن أن يحمينا”: هايدجر والتقنية

موسى ماي هوبس

ترجمة: نوره العجمي

تحرير: محمود سيّد

تستعرض هذه المقالة وجهة نظر هايدجر حول التقنية وكيف نرى العالم. ماذا تصبح التقنية عندما نتوقّف عن التفكير فيها كوسيلة لتحقيق غاية؟ اعتقد هايدجر أنّ الإجابة على هذا السؤال -الذي، بعبارة أخرى، يتساءل عن ماهية التقنية التي تتجاوز التفكير فيها باعتبارها أداةً وآلةً- تفسّر جوهر التقنية. إنّ النظرة غير التقنيّة للتقنية لا تقلّ أهميةً بالنسبة لهايدجر عن الفهم الفعلي لجوهر التقنية.

رأى هايدجر في أجزاء من عمله -قد ذكره بشكل أكثر صراحةً في سلسلة من المحاضرات، بما في ذلك (السؤال المتعلق بالتقنية)- أنّ التقنية ليست مجرد فئة تصف تطبيقات معينةً من الفكر العلمي، أو أنواع من الأجهزة. كما أنّ التقنية أيضًا ليست مجالًا حصريًّا للحداثة. وبدلًا من ذلك، اقترح هايدجر أنّ التقنية هي (طريقة للكشف)، وهي إطار تكشف فيه الأشياء عن نفسها بصفتها أدوات؛ أي كموارد مُعَدّة للاستخدام. إنّ عملية الكشف هذه، بالنسبة إلى هايدجر، لا تقلّ أهميةً بالنسبة إلى تقنية القرن العشرين عنها بالنسبة إلى أبسط الأدوات في تاريخ البشرية المبكّر.

ومع ذلك، هُناك فرق كبير بين التقنية القديمة والحديثة بالنسبة لهايدجر. ففي حين أنّ طاحونة الهواء “تولِّد” الطاقة من الظواهر الطبيعية، فإنها تكون مُرتبطةً بتلك الظواهر: فهي تُعينها على الكشف عن إمكانياتها المفيدة. على النقيض من ذلك، وهُنا نرى مصدر بروز هايدجر في الفكر البيئي المعاصر، يرى هايدجر أنّ التقنية الحديثة ذات طبيعة متحدّية، حيث “توفِّر الطاقةَ التي يمكن استخراجها وتخزينها”. بالنسبة لـهايدجر، فإنّ السلوك المميّز للتقنية الحديثة هو الاستخراج والكشف، وميلها إلى تحدّي الأرض للكشف عن نفسها كنوع معيّن من الموارد المفيدة. في لغة هايدجر، التقنية هي طريقة للكشف عن الأشياء (القائمة) على الطبيعة والمعتمدة عليها في إعادة هيكلتها وفقًا للمتطلبات البشرية.

هايدجر والتقنية

على الرغم من أنّ الاستخراج هو بالتأكيد شكل من أشكال التقدّم الذي يوجّهه الإنسان، إلا أنّ هايدجر حريص على التأكيد على أنّ إتقاننا الواضح للتقنية لا ينبغي الخلط بينه وبين الهروب من نمط الكينونة التقنيّة في كل مكان بشكل متزايد. في الواقع، فإنّ الحجة نفسها القائلة بأنّ التقنية ليست سوى أداة -أداة للتنبّؤ بالأشياء؛ لتشكيل الكوكب، أو لأغراض إنسانية أخرى موجودة مسبقًا- تُسيء فهم طبيعة التقنية. فعندما نتكلّم عن الجدوى، أو عن تحقيق غاياتنا، أو عن استخدام شيء للقيام بذلك، فإننا نتكلم بالفعل عن التقنية من الناحية التقنيّة. إنّ صعوبة الخروج من هذه الطريقة في الكلام، بالنسبة لـهايدجر، تدلّ على المحنة التقنيّة الأساسيّة للحداثة: استحالة تصوّر العالم بعيدًا عن كونه أداةً وموردًا ومخزنًا للطاقة.

بالنسبة لهايدجر، الشِّعر أيضًا طريقة للكشف. فعلى عكس العديد من الكُتّاب الآخرين في علم الجمال، تَصَوَّر هايدجر الفن والشعر كوسيلة تكشف بها الأشياء عن نفسها. هايدجر يدعونا إلى النظر إلى نهر (الراين) بطريقتَين مختلفتَين جدًّا. من ناحية، هناك نهر (الراين) الموصوف في ترنيمة هولدرلين (Der Rhein): “أنبل جميع الأنهار/نهر الراين الحُرّ” بصوته “المُبتهج”. ومن ناحية أخرى، هناك نهر (الراين) الذي يحرّك العنفات الريحيّة في الوحدة الكهرومائيّة المُرتبطة به. (الراين) الكهرومائي هو فقط موقع لتوليد الطاقة؛ طاقة يمكن تسخيرها وتخزينها وتوزيعها. إلى المراقب الخيالي الذي يقول إنّ ميزة المنظر الطبيعي الذي أدهشَ هولدرلين ما زال يتدفّق، يوجِّه هايدجر سؤاله: “كيف؟ لا يمكن أن يأتي ذلك بأيّ طريقة بعد أن صار النهر مُحاطًا بمجموعة مراقبين للسياحة وضعَتْهم هناك الجهةُ المسؤولةُ عن تنظيم الترفيه والعطلات”.

بالنسبة لـهايدجر، هذا (الراين) الحديث ليس هو نفس النهر الذي يذهب “مُتعطِّشًا” و “يعود فائضًا”. وهذا النهر -نهر هولدرلين- هو ضحية للتقنية، بقدر ما تحجب التقنية كل ما قد يتجاوزه نهر (الراين) من قدرةٍ على توفير الطاقة. التخيّل الشعري -وربما الجمالي بشكل عام- هو نمط من الكشف قد طمسَتْه التقنيةُ ذات مرة، وربما باستطاعته الكشف عن جوهر التقنية.

إنّ وجود النهر -ربما بشكل غير مفاجئ- ضروري لتفسير هايدجر للتقنية. يفهم هايدجر التقنيةَ كطريقة للكشف حيث لا يمكننا رؤية الأشياء كما هي -أي كأشياء بالمعنى الحقيقي-. من خلال إعطاء مثال للطائرة التي تنتظر على المدرج، يقترح هايدجر أنّ التقنية تكشف عن الأشياء فقط باعتبارها “مخزونًا دائمًا مُعَدًّا للاستعمال”؛ أي باعتبارها أشياء مفيدةً وتنتظر الظهور باستعمالها. بالتأكيد أنّ الطائرة على المدرج هي شيء كائن في مكان مّا، ولكن ليس هذا ما يشكِّل جوهر الطائرة بالنسبة لنا. “إذا ما تمّ الكشف عنها، فإنها تقف في المرفأ فقط كأداة محفوظة للاستعمال”. تسمح لنا التقنية برؤية الأشياء فقط على أنها أصول دائمة؛ فالنهر يُنظر إليه كمخزن للطاقة الكهربائية أو الجولات المصحوبة بمرشدين فحسبُ، والطائرة يُنظر إليها كأداة للنقل فحسبُ؛ ولكن هذه النظرة لا تنفذ أبدًا إلى جوهر الأشياء.

هايدجر وعلم البيئة

اقتراح هايدجر بأنّ البشر يجب أن يُعيدوا النظر في مواقفهم الأداتية تجاه الأشياء، وانتقاده للممارسات الاستخراجية التي تنبع من هذه المواقف، جعله يحظى بشعبية بين مفكري علم البيئة المعاصرين. على وجه الخصوص، أدى اهتمام هايدجر بالأجسام غير الحية والكائنات غير البشرية ككائنات قادرة على الكشف عن نفسها بطرق أخرى غير تلك التي تحصرها في دور الأدوات البحتة إلى وضعه بين مؤيدي “الإيكولوجيا العميقة”، وهي مدرسة فكرية تدافع عن قيمة الكائنات غير البشرية، وحتى الأشياء، باعتبار أنّ قيمتها منفصلة عن استخدام البشر لها. يقدّم هايدجر نقدًا للتفكير المتمحور حول الإنسان، وهو نقد لا يركّز كثيرًا على الضرر البيئي المحدد الناجم عن التقنية البشرية، ولكن على هياكل الفكر شبه المتواجدة التي تسلب الأشياء الطبيعية استقلالها الوجودي.

وتجدر الإشارة إلى أنّ هايدجر لا يلوم البشرية بشكل مباشر على تحويل الأشياء إلى احتياطيات مستدامة. إنّ أصل هذا النوع من “الكشف” أكثر غموضًا بالنسبة إلى هايدجر من معظم المنظِّرين البيئيين المعاصرين. على الرغم من أنّ هايدجر لا يتردد بالتوصية بأن نسعى جاهدين ضد الهيمنة السريعة للتقنية، إلا أنّ الفعالية البشرية -كما هو الحال في العديد من الأجزاء الأخرى من فلسفة هايدجر- يتمّ التشكيك فيها باعتبارها محرِّضًا على التفكير الآلي. هذا الملمح هو أيضًا بمثابة رفض لمركزية الإنسان السائدة، إنه يُلغي الأولوية المفترضة للإرادة البشرية والقوة البشرية لصالح صورة عالمية للفعالية المشتركة المعقّدة بين الناس والأشياء. على الرغم من أنّ البشر يصنعون بالتأكيد الأدوات، وينقّبون عن الأرض، ويبنون محطات توليد الطاقة الكهرومائية، إلا أنّ هايدجر يعرِّف هذه العملية بأنها إغراء غير إنساني، يكشف عن الأشياء في العالم باعتبارها وسيلة لبنائه.

البدائية والفاشية البيئية

إنّ إرث هايدجر اليوم إرث مشحون، ليس فقط بسبب ارتباطاته الشهيرة بالنازية ومناصرته لها. إنّ مقال مارك بليتز المُستفيض عن هايدجر والتقنية يفكِّك الطرق -على عكس بعض المُدافعين الصارمين عن الانفصال بين فلسفة هايدجر وانتماءاته السياسية- التي تتوافق بها كتابة هايدجر عن التقنية والطبيعة و”المسكن” مع الخطاب الفاشي -التاريخي والمعاصر-. فيُشير بليتز -على سبيل المثال- إلى أنّ تركيز الأيديولوجية النازية على الاختلاط الغامض بين “الدم والأرض” يجد الدعم النظري في تفكير هايدجر، في حين أنّ إنكار الحداثة -على النقيض من المُثُل العليا التقليدية- دائمًا ما يحظى بالمُحاباة بين الحركات السياسية الرجعية.

لطرح السؤال “ما الاقتراحات المفيدة التي يُمكننا استخلاصها من كتابات هايدجر حول التقنية والطبيعة؟” ربما قد نقع في فخّ التفكير التقنيّ الذي حذّرَنا منه. ومع ذلك، فإنّ فكر هايدجر يحتوي على اقتراحات حول كيفية البدء في الارتباط بالموارد الطبيعية من الناحية غير التقنيّة. إنّ فهم هذه الاقتراحات صعب جزئيًّا بسبب نصوص هايدجر الكثيفة والمُعقّدة، والمُحمّلة بنقاشات حول أصول اللغة، وهو صعب أيضًا لأننا اعتدنا على الحُجَج التي تقدِّم نفسها بشكل أداتيّ، التي تقدِّم الاقتراحات كوسيلة لتحقيق غاية فحسبُ. والمشكلة -في مواجهة المشاكل البيئية الخطيرة التي تتطلّب حلولًا عاجلةً- هي أنه من الصعب تعليق عدم تصديقنا لفكرة أنّ أيّ شيء سوف يتحسّن، إذا توقفنا ببساطة عن التفكير في النهر كمصدر للطاقة الكهربائية، أو رواسب الركاز كاحتياطي من مواد البناء.

في أحسن الأحوال، ربما يمكننا الموافقة على دعوة البدائية لإعادة التفاوض على علاقتنا مع سهولة وسرعة الحياة التقنيّة. ومع ذلك، هناك أسباب وجيهة للشك في هذا النداء، ليس أقلها أنّ تغير المناخ البشري المنشأ يطرح علينا مشاكل لن تُحَلّ عن طريق الوقف المُفاجئ للممارسات الاستخراجية الواسعة النطاق. إنّ التكاليف البشرية المترتبة على البدائية باهظة بالضرورة، وباستثناء أولئك الذين لا يستثمرون حقًّا في آفاق البقاء، والبشرية عموماً، فإنّ قلّةً من أنصار هذه البدائية يتصوّرون أن يتحملوا التكاليف ـ وأنهم سوف يتضورون جوعاً، أو يقتلون، أو يمرضون. هناك احتمال مقلق، يكمن وراء حتمية ترك الأشياء الطبيعية، هو الاعتقاد في التسلسلات الهرمية المبرَّرة طبيعيًّا.

وحده الإله يمكن أن ينقذنا

ربما يمكننا تصوّر طرق بديلة للاهتمام بنقد هايدجر للتفكير التكنولوجي، على الأقل كأفراد. ترتبط قضايا السياسة -بالضرورة- بأفكار الوسيلة والغايات، والنتائج المرغوبة، وإنفاق الموارد، ولكن باعتبارنا فاعلين مُنعزلين، فبوسعنا أن نختار الهروب من هيمنة الاحتياطي المُستدام. يبدو أنّ هايدجر يقترح أن نصبح أكثر ميلًا للشاعر وأقلّ ميلًا للفيزيائي في تفاعلاتنا مع الأشياء في العالم، مما يجعل الأشياء تكشف عن نفسها لنا وفقًا لجوهرها بدلًا من مكانها في نظام صارم من القُوى والطاقات المحتملة. في المقاطع الأخيرة من (السؤال المتعلق بالتقنية) كتب هايدجر هذه العبارة الغامضة: “إنّ جوهر التقنية ليس بأيّ حال من الأحوال تقنية”؛ يُشير هايدجر إلى أنّ التأملات الهادفة في جوهر التقنية تحدُث في مجال الفن.

ومع ذلك، لم يكن هايدجر متفائلًا بشأن الحداثة أو إمكانية تخليص أنفسنا كبشر من الهياكل التقييدية والتقنيات المسبِّبة للعمى التي أصبحنا نعتمد عليها. وبالحديث عن القنبلة الذرية، جادلَ هايدجر بأنه بدلاً من أن تقدِّم لنا تطوّرًا جديدًا، لدينا الفرصة لتوجيهها إلى الخير أو السوء، فإنّ القنبلة الذرية هي مجرد تتويج لقرون من الفكر العلمي. في الواقع، تؤثِّر الطاقة النووية على المظهر الأكثر حرفيةً لميل التقنية إلى إعادة ترتيب الأشياء كطاقة، فصور القنبلة الذرية مهمة في إمكاناتها كعمل من أعمال التدمير.

 كما تخاطر البشرية بإرباك نفسها باستخدام التقنية إلى حدّ أكبر من أي وقت مضى لحلّ المشاكل التي تتفاقم بنفسها بسبب التفكير العملي. يُشير إعلان هايدجر الشهير بأنّ “جميع المسافات في الزمان والمكان تتقلّص” إلى الطرق التي تسهِّل بها تقنيات النقل والاتصالات الوصول السهل إلى الصور والأماكن والأشخاص والأشياء والتُّحَف الثقافية وما إلى ذلك. “ومع ذلك، فإنّ الإلغاء المحموم لجميع المسافات لا يجلب أيّ قرب؛ لأن القرب لا يتعلّق بتقليص المسافة فحسبُ”. ما نتجاهله في الجُهد المحموم للوصول إلى القرب من خلال الوسائل التقنيّة؛ هو أنّ تلك الوسائل التقنيّة قد حجبت الأشياء في ذاتها، لقد أبعدتنا عن الأشياء التي كُشِفَت كما هي. يقترح هايدجر أنّ الكينونة تُتجاهَل بكل عجائبها شبه الغامضة، على الرغم من قربها المُباشر منا.

 في إشارة اعتُبرت طلبًا للمغفرة عن نازيته، ورثاءً للفخّ الذي وجدت الإنسانية نفسَها متورطةً فيه، قد ذكر هايدجر ذات مرة في مقابلة -أجراها بشرط ألّا تُنشَر إلا بعد وفاته- “الإله وحده يمكن أن يحمينا”. إنّ الاختلافات في استخدام التقنية لا تشكِّل أهميةً كبيرةً في كتابات هايدجر ــ فالقنبلة النووية ومحطة الطاقة الكهرومائية تخلُق نفس التشويش على الكينونة. والإله وحده يمكن أن يحمينا، وعند تجريد قناع الوسائل والغايات سنجد الحكمة الإلهية في أجلى صُوَرها.

المصدر
thecollector

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى