محمد الفارس
الحمدلله وبعد،
فإن عجبي لا يكاد ينقضي مما ذكره ابن رجب في ذيل الطبقات عن ابن الجوزي أنه قال عن الإمام أبي العلاء الهمذاني -رحمهم الله-: “بلغني أنه رئي في المنام في مدينة جميع جدرانها من الكتب، وحوله كتب لا تحد وهو مشتغل بمطالعتها، فقيل له: ما هذه الكتب؟ قال: سألت الله أن يشغلني بما كنت أشتغل به في الدنيا، فأعطاني”، فالمعرفة الصحيحة والعلم النافع من نعمة الله على عباده وشيءٌ من نعيمه المعجّل لهم؛ إذ إن النفوس مجبولة على حب العلم والمعرفة والشغف بها، فالعلم نوع من الاستيلاء على المعلوم والحوز له، ومحبة الاستيلاء قد جبلت عليها النفوس -كما يقول الشاطبي رحمه الله-.
ومن سمات عصرنا الراهن -بفعل عوامل عدة- سرعة تناقل المعارف والمعلومات وشدة تدفقها المستمرّ، على مستوى الواقع المعاش المتمثل في المجالس ونحوها، أو على مستوى الواقع الافتراضي المتمثل في مواقع التواصل ونحوها، ومثل هذا التدفّق الشديد المتبعثر يذكّر بمقالة لأحدهم يعيد بها قراءتنا للمعرفة التي نحتاج إليها حيث يقول: “ليست المعرفة اليوم في التزوّد من المعلومات، وإنما في استبعاد بعضها”.
ومع ظاهرة التناقل المعرفي المحمودة -في جملتها- أضحى من المهم تناول أدبيات هذا التناقل. والتعبير بـأدبيات “التناقل المعرفي” مقصود بعينه؛ إذ إن لنقل المعرفة أدبيات، ولتناقلها أدبيات أخرى، وأقصد بالتناقل المعرفي ما يكون من المشاركات المعرفية والإفادات العلمية بين المتقاربين في السنّ والتجربة الحياتيّة على وجه التفاعل والتبادل؛ ليخرج بذلك مفهوم “التعليم” المبني على نقل المعرفة، والذي يكون من الأعلى للأدنى ومن طرف واحد في الغالب كما يشعر به الوزن الصرفي للمفردة.
وليس القصد في هذا المقام استيفاء الأدبيات المتعلقة بعمليّة التناقل المعرفيّة، وإنما الإشارة إلى بعضها:
انتفاء الشعور بالمنّة:
ثمة أدب رفيع، وخلق رضي، كنت أكبره في نفسي، وأستعذبه فيمن يتصف به ممن أسامره، حتى قرأت مرة في ترجمة الخليل بن أحمد رحمه الله مَن أحسَنَ وصْفَ هذا الأدب فيه، فقال في عبارة رقراقة: “ وكان الخليل بن أحمد إذا أفاد إنسانا شيئا لم يره أنه أفاده، وإن استفاد من أحد شيئا، أراه بأنه استفاد منه”، وما أنبله رحمه الله!
فمن أرقى الأدبيات في التناقل المعرفي أن يتّسم ناقل المعرفة بكرم النفس، حيث يلقي بالفائدة دون أن يرقب في نفوس المتلقّين احتفاءهم بها، ولا ينتظر منهم عليها مدحًا أو ثناءً وشكرًا، ولا يمتنّ ببذله المعرفة عليهم، ولا يُظهر بها فضلَه العلميّ وبزَّه عليهم في حقوله. وهذا ضربٌ من ضروب “التواضع العلمي”: أن تفيد إنسانًا ولا تراه أنك أفدته، كما هي الحال في سائر صنوف الإحسان؛ فإن الإفادة المعرفية إحسانٌ، وحيث إنه ليس من الأدب الشرعي ولا الاجتماعي أن تظهر فضلك ومنّتك على مَن قدّمت له خدمة، أو أسبغتَ عليه نعمة.. فلتكن الحال كذلك في مقامات التناقل المعرفي!
وليس من “النُبل المعرفي” أن تُظهر عوار جليسك بجهله، فإن لكلّ عالِمٍ مجاهل، وكشفُها عليه بإذلال ليس من سيماء أهل المروءات! هذه حال العالم، ناهيك عن شداةِ العلم وطلابِه. فبعض مَن يشارك بإفادة معرفيّة تشُمّ منه في لحن قوله رائحةَ إذلال لجلسائه، فتراه يضخّم مِن جهلهم عنوانَ كتاب، أو يهوّل مِن تجاوزهم قراءةَ آخر، أو يحسّر عليهم عدمَ معرفتهم بفنّ من الفنون، أو غير ذلك؛ وكثيرٌ من الأحيان لا تستحق معرفتُه كبير احتفاء؛ وكل ما في الأمر أنه أعلى من قيمة المعرفة التي بذلها ليُظهر بها جهلَ جلسائه لا أكثر!
إظهار الحفاوة بالمعرفة:
ومن أدبيات تناقل المعرفة: أن تتلقاها بحفاوة وإعجاب وإكبار، وهذا لا يحتاج إلى أكثر من أن تظهر لمن أفادك أنك أفدت منه، وأنه أوقفك على ما فاتك، وكشف لك ما غاب عنك! ولذا روي عن عطاء بن أبي رباح رحمه الله قوله: “إني لأسمع الحديث من الرجل وأنا أعلم منه به، فأريه أني لا أحسن شيئا منه”، وهذا أدبُه فيما يُعلَم، ففيما لا يُعلم يتأكد هذا الأدب المعرفيّ.
وإنّ في إظهار الحفاوة بالمعارف والمعلومات كسرًا لحدّة النفس، وقسرًا لطبيعتها المستنكِفة، وتربيةً لها على التواضع وقبول المعرفة من كلّ أحد، وهكذا كان السلف رحمهم الله، كما نقل ابن رجب رحمه الله عن بعضهم قوله: “ التواضع أن تقبل الحق من كل من جاء به”.
ومن حُسن استقبال المعرفة مشاكلة حال ملقيها، قال بعض الأعراب: “ خير الجلساء من إذا عجبته عجب، وإذا فكّهته طرب، وإذا أمسكت تحدث، وإذا فكرت لم يلمك”.
وضدّ ذلك مَن إذا أفيد بمعرفة وعلمٍ لم يقف عليه قبلًا غضّ طرفه عنه، وربما أبدى جوابًا باردًا، واستهان بما بُذِل له على لسان حاله أو مقاله، وربما كتم اندهاشه وكابر إعجابه..؛ وما ذلك إلا لوَهمٍ ظنّه في نفسه أنه باحتفائه بالمعرفة يظهر سبقُ جهله بها وأنّ ذلك يحطّ من قدره.
فمعارف ذوي المروءات العلمية يلقونها عاريةً عن لُبسة المِنّة، ويتلقّونها مكسوَّةً بحلية الامتنان..
تخيّر المعرفة:
ومن أدبيات التناقل المعرفي: أن يصطفي المشارك بالمعرفة ما يتناسب مع المخاطَب وحالِه واهتمامه، وإنك لترى ذلك من مخايل عقله وحكمته؛ فإن من حسن المعشر وتمام العقل والحكمة ألا يثقل صاحب المعرفة على من يجالسه بالحديث عن معارفه التي لا تهمّه ولا تستهويه.. فحيث لم تأنس من جليسك احتفاءً بما تقول فإياك وإملاله بالاسترسال؛ وأمارة ذلك ما أشار له ابن مسعود رضي الله عنه: “حدّث الناس ما حدجوك بأبصارهم، وأذنوا لك بأسماعهم، ولحظوك بأبصارهم، وإذا رأيت منهم فترة فأمسك“.
العفوية المعرفية:
ومن ألطف أدبيات التناقل المعرفي في المجالس أن تكون المعرفة مبذولةً عفوًا، ساريةً في ثنايا الحديث، جاريةً في سياقاتها المناسبة دون تكلّف وتطويل، ودون إسهاب وتفصيل.. فأن يقال: ليته استرسل خيرٌ من أن يقال ليته سكت! اللهم إلا أن يقتضي المقام وتشرئبَّ النفوس إلى مزيد تحرير وبحث ونقاش، فذلك بابٌ آخر.
وبعدُ.. فتلك أدبيّاتٌ متفرّقة في تناقل المعارف والعلوم، أملاها الخاطر من عفوه بمدادٍ من التأمل والملاحظة لما يجري في المجالس وغيرها.. على أنّ تحقيقَ مناط هذه الأدبيّات عائدٌ للقارئ الكريم، وما سَبَق لا يعدو أن يكون مجرّد إشارات والتقاطات.. (وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب).
